الخميس، يناير 14، 2010

من أجل مصر.. لا من أجل العرب



صبحي غندور

تصاعدت في الآونة الأخيرة وتيرة "الوطنية المصرية" في مواجهة حملة النقد الواسعة التي تعرّضت لها الحكومة المصرية بعد قرارها بإقامة "جدار فولاذي" على الحدود مع قطاع غزَّة، المحاصر من كلّ الجبهات إسرائيلياً.

فهكذا هو الآن حال المنطقة العربية كلّها: "الوطنية" هي سلاحٌ يُستخدم فقط ضدّ العرب الآخرين، و"العروبة" يتمّ اللجوء إليها في المواجهة مع دول إسلامية غير عربية!

أمَّا في الداخل المصري، كما هو أيضاً حال العديد من بلدان عربية أخرى، فالأمراض الطائفية تزداد انتشاراً والناس أصبحوا ينقسمون على أسس دينية، لا على معايير اجتماعية وسياسية، كما هي عادةً الظاهرة الصحّية.

هي مفاهيم متّصلة يسند بعضها البعض الآخر، سلباً أم إيجاباً، عن "الوطنية والعروبة والدين". فواقع حال البلاد العربية يقوم على هذه الثلاثية المتلازمة من الهُويّات. وحينما يتحقّق الفهم السليم لها والتعبير الصحيح عنها في الفكر والممارسة، نشهد توحّداً وطنياً مبدعاً وسياسةً خارجية تجمع معاً بين مصلحة الأوطان والأمَّة العربية.

العكس يحدث حينما يتمّ توظيف "الوطنية والعروبة والدين" لصالح معارك حكومات وحكّام همُّهم الأول هو كرسيّ الحكم ومصالح الفئة القليلة الحاكمة. فلا انفصال أبداً بين ما هو قائم على مستوى بعض الحكومات، وبين ما تعيشه الأمَّة العربية من انقسامات طائفية وأثنية، وتفكّك في وحدة الكيانات، ومن تخلٍّ عن مسؤوليات قومية، ومن تسهيل لمزيد من التدخّل الأجنبي.

أفليس عيباً على بعض العرب اعتبار أو رؤية ما فعلته وتفعله إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزَّة وكأنّه "ردّة فعل"؟! أو التعامل مع العدوان والحصار على غزّة (كما كان العدوان على لبنان صيف العام 2006) وكأنّه صراع إسرائيل مع فصيل فلسطيني (أو لبناني)؟!

وهل أصبح الصراع العربي/الصهيوني مختزَلاً إلى هذا المستوى الرديء من التوصيف بعدما جرى اختزاله أولاً بالقول إنّه الآن "صراع فلسطيني/إسرائيلي"، ممّا يبرّر نفض أيدي بعض العرب من مسؤولياتهم الوطنية والقومية والدينية؟.

وبمقدار ما يتألّم العرب اليوم من وجع سياسات قام ويقوم بها الحكم المصري منذ توقيع المعاهدة مع إسرائيل، ومن تهميشٍ ثمَّ لدور مصر العربي، بقدر ما يشدّهم الحنين إلى حقبة ما زالت تذكرها أجيال عربية كثيرة، وهي حقبة جمال عبد الناصر الذي يصادف يوم 15/1/2010 ذكرى ميلاده ال92.

فلقد تميّزت حقبة ناصر بحالة معاكسة تماماً لما هي عليه مصر الآن والمنطقة العربية. وكانت التفاعلات السياسية والاجتماعية التي يحدثها ناصر في مصر تترك آثاراً إيجابية كبيرة، ليس فقط داخل البلاد العربية بل في عموم آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. وكان ذلك يؤدّي إلى تعزيز دور مصر وقيمة تجربتها الثورية خارج حدودها. فقوّة ناصر كانت قي قدرته على تحريك الشارع العربي وفي "رجع الصدى" لما يقوله ويفعله في كثير من بلدان العالم.

لقد أدرك جمال عبد الناصر دور مصر الريادي في التاريخ القديم والحديث، وبأنّ مصر لا يمكن أن تعيش منعزلة عن محيطها العربي وعمّا يحدث في جناحيْ الأمّة بالمشرق والمغرب، بينما مصر هي في موقع القلب، وبأنّ أمن مصر وتقدّمها يرتبطان بالتطوّرات التي تحدث حولها.

فلو ظهر جمال عبد الناصر في غير مصر لما استطاع أن يكون عظيماً بدوره، ولما كانت تجربته بالقيمة نفسها. فالعنصر الأهم في قيمة تجربة ناصر هو مكانها، أي مصر، وبما هي عليه مصر من موقع جغرافي يربط آسيا بأفريقيا، وشرق العرب بمغربهم، ولِما كان – وما يزال- لهذا الموقع من أهمّية استراتيجية لكلّ من أراد الهيمنة على عموم المنطقة.

فالاختلال بتوازن مصر وبدورها يعني اختلالاً في توازن الأمّة العربية كلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد وفاة ناصر عام 1970 ، وبعد معاهدة "كامب ديفيد" في العام 1979.

الأمّة العربية لا تتحدّث الآن عن حلم التوحّد والتكامل بين أقطارها، كما كان الأمر في فترة ناصر، بل هي تعيش الآن كابوس خطر تقسيم الأوطان على أسس عرقية وإثنية وطائفية ومذهبية.

إنّ القدر لم يسمح لجمال عبد الناصر أن يعيش طويلاً وأن يحصد ثمرة إعادة بنائه للقوات المسلحة المصرية وللمجتمع المصري عموماً عقب حرب العام 1967، إضافةً إلى سياسة التضامن العربي التي أرسى عبد الناصر في قمة الخرطوم عام 1967 قواعدها حيث دخلت المنطقة العربية كلها في مرحلة جديدة من التضامن العربي الجاد والفعّال لأجل تحرير الأراضي العربية المحتلة ورفض تحقيق الشروط الإسرائيلية للسلام مع العرب.

هذه الحقبة الزمنية (67/70) مهمّة جداً في التاريخ العربي المعاصر وفي تاريخ العلاقات العربية/العربية، وفي تاريخ الصراع العربي/الصهيوني. وللأسف لم يتوقف الكثيرون عند هذه الحقبة وما حملته من أساسات لم يحافَظ عليها لا في داخل مصر ولا في المنطقة العربية عموماً.

إنّ لحظات التحوّل التاريخي في دور مصر بدأت حينما استثمر أنور السادات انتصار حرب 1973 ليقبل بما لم يقبله ناصر بعد هزيمة 1967، أي الصلح والاعتراف والمفاوضات مع إسرائيل، وبشكلٍ منفرد ومستقل عن باقي الجبهات العربية وعن جوهر الصراع: القضية الفلسطينية. وارتضى السادات أن يكون الانسحاب من سيناء هو الثمن لتحويل مجرى الدور المصري في المنطقة العربية (والعالم الثالث) من موقع القيادة إلى حال "السلامة عن طريق الانعزال" وهي الجملة التي كان عبد الناصر يردّد في معظم خطبه بعد حرب 1967 رفضه لها.

هاهي الأمَّة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي وغياب الديمقراطية السياسية، مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها ويدفع بالوضع العربي كله نحو مزيد من التأزّم والتخلّف والسيطرة الأجنبية.

إنَّ التجربة الناصرية أصبحت الآن ملكاً للتاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن العروبة كهُويّة انتماء مشترك، كانت قبل عبد الناصر وستبقى بعده رغم كلّ ما يجري الآن من مظاهر التخلّي عنها، فالعروبة بمضامينها الحضارية قادرة على النهوض من جديد إذا ما توفّرت لها القيادات السليمة، وإذا ما ارتبطت الدعوة للعروبة بالبناء الدستوري السليم.

الأمَّة العربية تحصد الآن نتائج سياسات حكّامٍ فاسدين في ظل اشتعال دور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلد عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية.

فالبلاد العربية تخشى اليوم على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلّين لبعض أرضها أو من الساعين إلى السيطرة على ثرواتها ومقدّراتها.

إنّ الضعف الراهن في جسم الأمّة العربية هو من ضعف قلبها في مصر، ومن استمرار عقل هذه الأمّة محبوساً في قوالب فكرية جامدة يفرز بعضها خطب الفتنة والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد. وسيدرك من جديد أبناء هذه الأمَّة، عاجلاً كان أم آجلاً، الحاجة الى العروبة من أجل أوطانهم أولاً .

ليست هناك تعليقات: