الخميس، يناير 14، 2010

عن العلمانية كأساس للدولة الحديثة

د. ماهر الشريف

خلال محاضرة قدمتها في لبنان عن المراحل التاريخية التي مرّ بها نضال الشيوعيين الفلسطينيين، سألني أحد الرفاق سؤالاً يتعلق بمغزى الانتقال من اسم الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى اسم حزب الشعب الفلسطيني، معتبراً أن الحزب الذي حمل هذا الاسم الجديد ليس في وسعه تمثيل كل الشعب الفلسطيني؛ فكان جوابي هو أن تغيير الاسم لم ينطوِ على أي رغبة أو طموح في تمثيل كل الشعب الفلسطيني، وذلك على اعتبار أن أي حزب سياسي، مهما كان، لا يستطيع أن يكون ممثلاً لكل الشعب، وأن حزب الشعب الفلسطيني، باعتباره وريث الحزب الشيوعي الفلسطيني، يعبّر في الأساس، أو بالأحرى يطمح إلى التعبير عن مصالح الفئات الاجتماعية الكادحة بسواعدها وأدمغتها بين صفوف الشعب الفلسطيني، لكنه يتصدّى، في هذه المرحلة التاريخية من نضاله، لمهمات مجتمعية تخص كل طبقات الشعب الفلسطيني، ومن هذه المهمات التطلع، بعد دحر الاحتلال وإنجاز الاستقلال الوطني، إلى قيام دولة تستند إلى أسس حديثة، وعليه، بالتالي، أن ينوّر بهذه الأسس، ومن بينها العلمانية. وأضفت بأن الشيوعيين الفلسطينيين، وعلى مر تاريخهم الطويل، كانوا يحترمون المعتقدات الدينية، ولم يقفوا أبداً في وجه معتنقيها، لكن الظروف الراهنة، التي تتميّز بمحاولات توظيف الدين في السياسة والخلط بين المجالين الديني والدنيوي، باتت تفرض عليهم إبراز الطابع العلماني للدولة الفلسطينية المستقلة التي ينشدونها.
وقد فتح جوابي هذا شهية الرفاق الحاضرين، حيث سألني أحدهم عن موقف الحزب من المؤمنين وهل بإمكان المؤمن أن يكون عضواً في الحزب، فأجبته بأن الحزب، الذي أكد في برنامجه، مبدأ " حرية الاعتقاد باعتباره شأناً فردياً خاصاً "، عليه أن يفتح أبوابه أمام جمهور المؤمنين، الذين يشكّلون الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا، كما أن الحزب الذي أشار في برنامجه إلى أنه يستلهم " كل ما هو تقدمي وإنساني في التراث الفكري العربي والعالمي" لا يمكنه إلا أن يدرج في نطاق هذا التراث تراث رواد الإصلاح الديني، الذين نوّروا وأشاعوا فكراً إسلامياً، تقدمياً وإنسانياً ومنفتحاً على التفاعل الحضاري الإيجابي مع "الآخر".
فما هي العلمانية التي تشكّل أساساً للدولة الحديثة؟
يُعتقد أن فكرة علمانية الدولة برزت لأول مرة مع انعقاد مؤتمر وستفاليا عام 1648 ( نسبة إلى منطقة وستفاليا الواقعة غرب ألمانيا)، الذي أنهى الحروب الدينية الطويلة التي اندلعت في أوروبا، وكرّس مبدأ سيادة الدول كأساس للدولة القومية الحديثة.
فقد كان من نتائج "صلح وستفاليا" تراجع أهمية البابوية كقوة سياسية في أوروبا وتجريدها من حق التدخل في شؤون الكيانات السياسية، ونقل ممتلكات الكنيسة إلى سلطة الدولة المدنية، .بالإضافة إلى إنهاء سيطرة اللاهوت على العقل في أوروبا والتوجه نحو العلم والفلسفة، وإقامة العلاقات بين أتباع الطوائف المسيحية الثلاث، الكاثوليكية واللوثرية والكلفانية، على قاعدة التسامح الديني.
وقد عرّف جون هوليوك (1817-1906)، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، العلمانية بأنها " الاعتقاد بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي للإيمان الديني سواء بالقبول أو الرفض ". أما صادق جلال العظم، فقد عرّفها بأنها تعني " الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والإثنيات التي يتكوّن منها المجتمع، والمساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون، وصيانة حرية الضمير والمعتقد للجميع "، وهو تعريف يناسب، في اعتقاده، المجتمعات المتعددة الطوائف والأديان السائدة في العالم العربي.
ومن جهتي، أعتقد أن العلمانية، التي لا يجمعها جامع بمعاداة الدين، ليست عقيدة، ولا إيديولوجية خلاصية، بل هي مبادئ لتنظيم الاجتماع، يأتي في مقدمها إحلال مفهوم المواطن، المستقل بشخصيته وتفكيره، محل مفهوم الرعية، واعتبار أن الشعب هو مصدر السلطة، والنظر إلى العلاقة بين الإنسان وربه بوصفها علاقة فردية لا تحتاج إلى وسيط، وإباحة حرية الاعتقاد والضمير لكل مواطن في المجتمع، والدعوة إلى الابتعاد عن التكفير، وضمان حرية التفكير والبحث في كل المسائل، وبضمنها المسائل الدينية.
وبغض النظر عن الاختلاف في التعريف، يُنظر إلى العلمانية على أنها نتاج من نتاجات الحداثة، وتمثّل، مع الديمقراطية، وجهين لعملة واحدة. ومع أن الحداثة قد ولدت في الغرب، إلا أنها تجاوزت، مع الوقت، أصلها الغربي وتحوّلت إلى مكتسب إنساني عام. ومن المعروف بأن العرب المسلمين قد ساهموا في توفير شروط ولادتها في الغرب، ولا سيما من خلال تيار "الرشدية اللاتينية"، الذي استلهم تعاليم فيلسوف قرطبة ابن رشد، ولعب دوراً بارزاً في الحياة الفكرية الأوروبية ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر.
بيد أن كونية العلمانية لا تعني بأنها تتمظهر بشكل واحد في كل البلدان، بل هي تتخذ، في الواقع، أشكالاً مختلفة باختلاف الظروف الواقعية والسياقات التاريخية، إذ هي تتمظهر في فرنسا، على سبيل المثال، بشكل مختلف عن شكل تمظهرها في بريطانيا أو فرنسا أو الهند.
ولكن هل تتوافق العلمانية مع الإسلام؟
إن أنصار الحركات الإسلامية، ومنذ زمن حسن البنا، يؤكدون أن الإسلام يختلف عن الأديان الأخرى في أنه " دين ودولة "، ويدعون إلى قيام دولة تستند إلى الشريعة الإسلامية. بينما يعتقد بعض المستشرقين الغربيين، ومنهم برنارد لويس ودانيل بايبس، أن الإسلام هو، من حيث جوهره، دين لا يتوافق مع مبادئ الحداثة، وبالتالي لا يقبل العلمانية.
ومع أن مصطلح العلمانية لم يدخل حيز التداول الفكري العربي إلا منذ عشرينيات القرن العشرين، إلا أن رواد الإصلاح الديني، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، الذين شكّلوا جزءاً من الأنتلجنسيا الحديثة، التي طرحت على نفسها مهمة التنوير بأسس الحداثة المجتمعية، قد تبنّوا، في الواقع، وأشاعوا في مجتمعاتهم مبادئ العلمانية، حتى وإن لم يلجأوا إلى المصطلح.
فقد دعا جمال الدين الأفغاني إلى إعادة النظر في الإسلام من زاوية العقل وروح العصر، وسعى إلى تحطيم السد الذي كان قد أقيم، منذ إحراق مؤلفات ابن رشد، بين الإسلام والفلسفة، وأكد ضرورة إعادة فتح باب الاجتهاد معتبراً أن الإسلام لا يخالف الحقائق العلمية، وأنه لا بدّ من العودة إلى التأويل في كل مرة يظهر فيها تناقض بين الدين والعلم. أما مريده محمد عبده، مفتي الديار المصرية، فقد حرّر الفكر من التقليد، ورفض احتكار تفسير النص الديني من قبل فئة معيّنة، وانفتح على الجوانب الإيجابية في الحضارة الغربية الحديثة، واعتقد بالتآلف بين الديانات السماوية الثلاث.
وأشار المصلح التونسي عبد العزيز الثعالبي، من جهته، إلى أن القرآن يوصي بالتسامح إلى أقصى حد ممكن في الأمور الدينية، كما يوصي بحرية الفكر واحترام جميع الآراء، ويستنكر أي اعتداء على المعتقدات، سواء منها الفردية أو الجماعية، ويرى أن على الناس أن يهتدوا عن طريق الاقتناع الذاتي لا عن طريق الإكراه. في حين رأى الإمام الحلبي عبد الرحمن الكواكبي في الاستبداد والجهل السبب الأول للتخلف، وربط بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، وفضّح العلاقة بين الحكام المستبدين والعلماء "المدلّسين والجهّال"، وحذّر من الخلط بين حقلي السياسة والدين ومن "الاتّجار" بالدين، ودعا إلى الفصل بين وظائف السياسة والدين والتعليم منعاً لاستفحال السلطة.
وانطلق المصلح الشيعي محمد حسين النائيئي، الذي ارتبط اسمه بثورة "المشروطة" أو بالثورة الدستورية في إيران، من فكرة دنيوية كل أنماط السلطة السياسية، ومن مبدأ التوكيل، ليؤكد ضرورة أن تتولّى الأمة سد مناطق الفراغ في التشريع، معتبراً أن النظام الدستوري هو أنسب أنظمة الحكم، حتى بالنسبة إلى المسلمين.
وعلى خطى أولئك الرواد، يحاول دعاة تجديد الفكر الإسلامي اليوم، من باحثين وعلماء دين، تأكيد حقيقة أن الإسلام يتوافق مع الحداثة، وينسجم بالتالي مع العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث.
فقد أقام العلامة الشيعي اللبناني محمد حسن الأمين، ومنذ سنوات، تمييزاً بين "علمانية مؤمنة" و" علمانية ملحدة "، معتبراً أن الإسلام لم يحدد نظاماً معيّناً للحكم، وأن فصل الدين عن الدولة لا ينفي الدين بل يؤكد أن السلطة هي شأن بشري، وأن البشر أحرار في التشريع لأنفسهم.
بينما قدّر الشيخ المصري الراحل خليل عبد الكريم، في كتابه: " الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية"،.بأن الحكومة الدينية لم تتحقق في تاريخ الإسلام إلا على يد النبي محمد، لأن حكمه كان " مؤيداً بالوحي يدلّه على حكم الله في كل واقعة ويهديه إلى الصواب في كل مشكلة ". أما الحكومات التي جاءت بعده، بما فيها حكومات الخلفاء الراشدين، فقد كانت كلها " بشرية " ، لأنه أصبح " متعذراً، بل مستحيلاً، بعد انقطاع الوحي، معرفة حكم الله في أي قضية أو نازلة أو مشكلة "، لا سيما وأن البشر يختلفون في تفسير النصوص المقدسة "لاختلاف مداركهم ومشاربهم ونزعاتهم ومصالحهم ومكانتهم في المجتمع "، ولأن من يزعم منهم أن تأويله " هو الأصح، المطابق لإرادة الرب الذي أنزل النص، أو الرسول الذي قال الحديث، فإنه يكون متعسفاً"، وهذا ما تنبّه إليه – كما يتابع – الإمام علي بن أبي طالب " عندما وصف القرآن بأنه حمّال أوجه، أي متسع لعدة تفسيرات، قابل لشتى التأويلات ".
وإذ أكد عبد الكريم على " تاريخية " الرسول، كونه " عاش في زمن محدد، وفي بيئة معينة وفي أمكنة بذواتها "، معتبراً أن معطيات الشريعة الإسلامية " هي معطيات تاريخية تأثرت بالبيئة التي ظهرت بها، والمجتمع التي وردت فيه واتفقت مع مدارك المخاطبين الذين توجهت إليهم "، فهو يأخذ على منظري الحركات الإسلامية المعاصرة انشدادهم إلى الماضي، إذ يعتقدون اعتقاداً جازماً " أن ما صلح للماضي فهو صالح للحاضر والمستقبل، بل وللأبد "، واعتمادهم على " النقل بوصفه مرجعهم الأول والأخير ". كما يأخذ عليهم " انتقائيتهم " في التعامل مع النصوص، بحيث يختارون النصوص " التي تدعم وجهة نظرهم "، ويتركون"باقيها الذي يخالف رأيهم ".
وفي نظر هؤلاء المجددين، فإن خروج المسلمين من الأزمة التي يواجهونها، وتعافيهم من مرضهم، يتطلبان – كما يرى الباحث السوري في الفكر الإسلامي محمد شحرور - قيام إصلاح ديني حقيقي، يعيد النظر في التراث الفقهي، ويقرأ القرآن والسنة النبوية قراءة جديدة، توفّر أصولاً جديدة للفقه والتشريع، وتساهم في إبداع نظرية حديثة للدولة والمجتمع تضمن " ولاية الأمة على نفسها ".

ليست هناك تعليقات: