د. اميل قسطندي خوري
اجتمعت مجموعة العشرين التي تضم دولا صناعية كبرى كالولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والمانيا وكندا وبريطانيا واليابان وايطاليا، ودولا اخرى ناشئة مثل دول البريك (البرازيل وروسيا والهند والصين) والارجنتين والمكسيك وكوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية الشقيقة، وذلك لدراسة الاسباب التي ادت الى نشوء الازمة المالية العالمية الراهنة والبحث في اتخاذ اجراءات حازمة لمواجهة تداعياتها السلبية، املا في الوصول الى تفاهم وتعاون مشترك حول مجمل القضايا الملحة على صعيد الملف الاقتصادي وبالتالي ايجاد حلول عاجلة قد يكتب لها النجاح بعون الله تعالى في التعاطي مع الانكماش الاقتصادي الدولي الذي خلفته الازمة. كما قامت المجموعة بدراسة كيفية اتخاذ التدابير اللازمة لاصلاح النظام الاحتياطي العالمي ووضع التعديلات التشريعية والتنظيمية والمؤسسية الملائمة للنظام المالي العالمي الحالي الذي قام على اساس الاتفاقيات التي خرج بها مؤتمر بريتون وودز عام 1944 الذي عقد تحت اشراف صندوق البنك الدولي والذي ما زال معمولا به الى يومنا هذا.
الجديد في مؤتمر العشرين هو المشاركة التاريخية للقوى الاقتصادية الصاعدة والدور الهام الذي منحته لها الاقتصاديات الديناميكية المتقدمة (او بالاحرى الدورالذي تم انتزاعه منها بجدارة) للمساهمة في اعادة هيكلة النظام المالي العالمي الحالي وتهيئه كافة السبل والظروف والامكانيات المناسبة لتطويره وتحسين ادائه بعد الشلل الرهيب الذي حل في اوصاله لاسباب عديدة. من هذه الاسباب نذكر مثلا الازمة الائتمانية التي نجمت عن تسهيل معايير الاقتراض مما ادى الى وفرة في منح القروض، لا سيما تلك التي حصل عليها المقترضون لشراء المنازل والعقارات والسلع المعمرة (كالاثاث والقطع الثقيلة والسيارات والاجهزة الكهربائية والالكترونية من ثلاجات وغسالات وستيريوهات وكمبيوترات ... الخ) واخفاق هؤلاء في سداد ديونهم، الامر الذي ادى في النهاية الى نشوب ازمة الرهون العقارية عالية المخاطر والتي زاد من حدة تفاقمها الهبوط الشاهق وغير المسبوق في اسعار المساكن والعقارات والممتلكات. كذلك الازمة الغذائية العالمية التي تجلت بوضوح في نقص المعروض السوقي لبعض الاغذية الاساسية كالارز والذرة والشعير وقصب السكر وفول الصويا جراء استخدام مثل هذا النوع من الحبوب في صناعة الوقود الحيوي ليس فقط كوسيلة لجوء الى استخدام مصادر جديدة من الطاقة النظيفة الاقل كلفة والاكثر صداقة للبيئة، بل ايضا كبديل اقتصادي استراتيجي لتقليص هامش الاعتماد على طاقة البترول ومشتقاته المتعددة. اضف الى ما سبق ذكره من اسباب، الانحسار التاريخي المتعاقب في قيمة الدولار الاميركي على فترات طويلة مقابل عملات دولية رئيسية اخرى كاليورو والين والاسترليني والفرنك السويسري وغيرها، الامر الذي تمخض عنه الارتفاع التاريخي لاسعار التوامين (النفط والذهب) نظرا لتقويم هاتين السلعتين الاستراتيجيتين بالعملة الاميركية في العديد من دول العالم.
ادت هذه الازمات مجتمعة الى سلسلة من الانهيارات المالية التي انتشرت في الكثير من مؤسسات المال وقطاعات الاقتصاد الحساسة كقطاع المصارف والصناعة والتجارة على مستوى العالم باسره، والافلاس غير المتوقع للعديد من البنوك والمؤسسات المالية الكبرى كبنك بير شتيرنز ومؤسسة ليمان بروذرز (رابع اكبر بنك استثماري في الولايات المتحدة الاميركية) وشركات التامين العالمية الضخمة (كالمجموعة الاميركية الدولية)، والخسائر الفادحة التي نجمت عن انفجار الفقاعة العقارية وما افرزته من عمليات بيع للقروض المتعثرة السداد (كالديون العقارية بشكل خاص) على شكل عقود تامين بحيث تمت صياغتها واعادة بيعها على صورة سندات استثمارية علما بانه لم تكن هناك اية ارصدة مالية ترفدها وتغطي قيمتها. وقد قدرت هذه الخسائر المهولة بما يناهز 65 تريليون دولار اميركي (65 الف بليون/مليار) وهو ما يعادل خمسة اضعاف الناتج القومي الاجمالي للولايات المتحدة الاميركية. وقد دفعت الازمة ايضا بعض البنوك الكبرى مثل جيه. بي. مورغان تشيس وسيتي جروب واتش. اس. بي. سي الى الغاء عدد هائل من الوظائف قدر بالالاف. باختصار شديد، احاقت هذه الازمات باهم القطاعات المحورية التي تحرك عجلة الاقتصاد الكلي وتسند دعائمه الا وهي اسواق الائتمان والاسكان والمال.
من بين الدول الناهضة التي شاركت بفاعلية رفيعة المستوى في قمة العشرين كانت المملكة العربية السعودية الشقيقة. فبمناسبة هذه المشاركة التاريخية المشرفة لدولة عربية خليجية ذات ثقل استراتيجي عظيم ودور لوجستي كبير ومهم على ساحة الاحداث الدولية، تحضرنا هنا حزمة من التساؤلات عن الدور الرائد الذي نترقبه من المملكة في المساهمة في ترتيب البيت المالي والنقدي العالمي الجديد. فكيف سيكون شكل هذه المشاركة باذن الله تعالى؟ هل سيقتصر الدور السعودي مثلا على اعادة هيكلة المؤسسات المالية العالمية؟ ام على تشديد ضوابط النظام المالي العالمي؟ ام على صياغة السياسات وسن القوانين وتشريع الانظمة المالية العالمية؟ ام على تعزيز قوانين الاسواق المالية العالمية وتنظيمها وضبط تقلباتها؟ ام على استحداث منظومة رقابية عصرية تواكب احدث الاساليب والمعايير الدولية لتشديد قبضة الرقابة المالية على المصارف العالمية الكبرى؟ ام على تقييم الاداء العام للقطاعات المالية العالمية؟ ام على وضع التدابير الاشرافية والاستراتيجيات الوقائية لحفظ حقوق المستثمرين وحماية عامة الناس من دهاليز قراصنة البورصة وبراثن سماسرة المال، الامر الذي سيتيح لهم فرصة الحفاظ على اموالهم واستثماراتهم التي عرقوا في جمعها وذاقوا الامرين في ادخارها من التبخر والضياع؟ ام على اجراء اصلاحات مصرفية (كنهج خطط انقاذ مالي او عقد صفقات دعم مالي للبنوك والمصالح التجارية والمؤسسات المالية المتعثرة في حالات الطواريء)؟ ام على لعب دور اكثر فاعلية في البنك الدولي او صندوق النقد الدولي (الذي يتحكم في التجارة والتمويل الدوليين) او الاثنين معا من اجل العمل المشترك على وقف نزيف الازمة المالية واخراج الاقتصاد العالمي من مستنقع الركود الحالي؟
مواضيع كثيرة مطروحة على طاولة البحث والنقاش السعودية نتمنى ان نرى لها ترجمة ملموسة على ارض الواقع في المستقبل القريب باذن الله تعالى من خلال تكثيف اطر التعاون والتشاور وتنسيق الجهود مع باقي الدول الخليجية والعربية، وتبادل الاراء وتقاسم الخبرات وتقاطع الرؤى مع البنوك المركزية ومؤسسات النقد والوزارات المالية والهيئات الرقابية (الفاعلة في مجالات ضبط الاسواق المالية وتقييم المخاطر وتشديد المعايير الدولية على المؤسسات والادوات المالية) املا في الوصول بالمحصلة النهائية الى تمثيل عربي مشترك يقوم على اساس رؤية شمولية واحدة في وضع اجراءات تشريعية وتدابير تنظيمية وتطبيق مقاييس قانونية ومالية موحدة بحيث نكون قادرين معها على حماية اقتصادياتنا العربية من مخاطر ازمات اقتصادية محتملة وانهيارات مالية مماثلة (لا سمح الله) حتى نتمكن بعونه تعالى من تحقيق الاستقرار المالي المنشود الذي يوفر لوطننا العربي الكبير الامان الاجتماعي والرخاء الاقتصادي والتنمية المستدامة، داعين الله جلت قدرته ان يحفظ امتنا العربية والاسلامية من مصائب المغرضين وان يصون تراب بلادنا من المحيط الى الخليج من كل شر ومكيدة "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" (صدق الله العظيم)، ان الله سميع مجيب وهو على كل شيء قدير.
__________________
مستشار اداري وخبير اقتصادي
dekh@myway.com
اجتمعت مجموعة العشرين التي تضم دولا صناعية كبرى كالولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والمانيا وكندا وبريطانيا واليابان وايطاليا، ودولا اخرى ناشئة مثل دول البريك (البرازيل وروسيا والهند والصين) والارجنتين والمكسيك وكوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية الشقيقة، وذلك لدراسة الاسباب التي ادت الى نشوء الازمة المالية العالمية الراهنة والبحث في اتخاذ اجراءات حازمة لمواجهة تداعياتها السلبية، املا في الوصول الى تفاهم وتعاون مشترك حول مجمل القضايا الملحة على صعيد الملف الاقتصادي وبالتالي ايجاد حلول عاجلة قد يكتب لها النجاح بعون الله تعالى في التعاطي مع الانكماش الاقتصادي الدولي الذي خلفته الازمة. كما قامت المجموعة بدراسة كيفية اتخاذ التدابير اللازمة لاصلاح النظام الاحتياطي العالمي ووضع التعديلات التشريعية والتنظيمية والمؤسسية الملائمة للنظام المالي العالمي الحالي الذي قام على اساس الاتفاقيات التي خرج بها مؤتمر بريتون وودز عام 1944 الذي عقد تحت اشراف صندوق البنك الدولي والذي ما زال معمولا به الى يومنا هذا.
الجديد في مؤتمر العشرين هو المشاركة التاريخية للقوى الاقتصادية الصاعدة والدور الهام الذي منحته لها الاقتصاديات الديناميكية المتقدمة (او بالاحرى الدورالذي تم انتزاعه منها بجدارة) للمساهمة في اعادة هيكلة النظام المالي العالمي الحالي وتهيئه كافة السبل والظروف والامكانيات المناسبة لتطويره وتحسين ادائه بعد الشلل الرهيب الذي حل في اوصاله لاسباب عديدة. من هذه الاسباب نذكر مثلا الازمة الائتمانية التي نجمت عن تسهيل معايير الاقتراض مما ادى الى وفرة في منح القروض، لا سيما تلك التي حصل عليها المقترضون لشراء المنازل والعقارات والسلع المعمرة (كالاثاث والقطع الثقيلة والسيارات والاجهزة الكهربائية والالكترونية من ثلاجات وغسالات وستيريوهات وكمبيوترات ... الخ) واخفاق هؤلاء في سداد ديونهم، الامر الذي ادى في النهاية الى نشوب ازمة الرهون العقارية عالية المخاطر والتي زاد من حدة تفاقمها الهبوط الشاهق وغير المسبوق في اسعار المساكن والعقارات والممتلكات. كذلك الازمة الغذائية العالمية التي تجلت بوضوح في نقص المعروض السوقي لبعض الاغذية الاساسية كالارز والذرة والشعير وقصب السكر وفول الصويا جراء استخدام مثل هذا النوع من الحبوب في صناعة الوقود الحيوي ليس فقط كوسيلة لجوء الى استخدام مصادر جديدة من الطاقة النظيفة الاقل كلفة والاكثر صداقة للبيئة، بل ايضا كبديل اقتصادي استراتيجي لتقليص هامش الاعتماد على طاقة البترول ومشتقاته المتعددة. اضف الى ما سبق ذكره من اسباب، الانحسار التاريخي المتعاقب في قيمة الدولار الاميركي على فترات طويلة مقابل عملات دولية رئيسية اخرى كاليورو والين والاسترليني والفرنك السويسري وغيرها، الامر الذي تمخض عنه الارتفاع التاريخي لاسعار التوامين (النفط والذهب) نظرا لتقويم هاتين السلعتين الاستراتيجيتين بالعملة الاميركية في العديد من دول العالم.
ادت هذه الازمات مجتمعة الى سلسلة من الانهيارات المالية التي انتشرت في الكثير من مؤسسات المال وقطاعات الاقتصاد الحساسة كقطاع المصارف والصناعة والتجارة على مستوى العالم باسره، والافلاس غير المتوقع للعديد من البنوك والمؤسسات المالية الكبرى كبنك بير شتيرنز ومؤسسة ليمان بروذرز (رابع اكبر بنك استثماري في الولايات المتحدة الاميركية) وشركات التامين العالمية الضخمة (كالمجموعة الاميركية الدولية)، والخسائر الفادحة التي نجمت عن انفجار الفقاعة العقارية وما افرزته من عمليات بيع للقروض المتعثرة السداد (كالديون العقارية بشكل خاص) على شكل عقود تامين بحيث تمت صياغتها واعادة بيعها على صورة سندات استثمارية علما بانه لم تكن هناك اية ارصدة مالية ترفدها وتغطي قيمتها. وقد قدرت هذه الخسائر المهولة بما يناهز 65 تريليون دولار اميركي (65 الف بليون/مليار) وهو ما يعادل خمسة اضعاف الناتج القومي الاجمالي للولايات المتحدة الاميركية. وقد دفعت الازمة ايضا بعض البنوك الكبرى مثل جيه. بي. مورغان تشيس وسيتي جروب واتش. اس. بي. سي الى الغاء عدد هائل من الوظائف قدر بالالاف. باختصار شديد، احاقت هذه الازمات باهم القطاعات المحورية التي تحرك عجلة الاقتصاد الكلي وتسند دعائمه الا وهي اسواق الائتمان والاسكان والمال.
من بين الدول الناهضة التي شاركت بفاعلية رفيعة المستوى في قمة العشرين كانت المملكة العربية السعودية الشقيقة. فبمناسبة هذه المشاركة التاريخية المشرفة لدولة عربية خليجية ذات ثقل استراتيجي عظيم ودور لوجستي كبير ومهم على ساحة الاحداث الدولية، تحضرنا هنا حزمة من التساؤلات عن الدور الرائد الذي نترقبه من المملكة في المساهمة في ترتيب البيت المالي والنقدي العالمي الجديد. فكيف سيكون شكل هذه المشاركة باذن الله تعالى؟ هل سيقتصر الدور السعودي مثلا على اعادة هيكلة المؤسسات المالية العالمية؟ ام على تشديد ضوابط النظام المالي العالمي؟ ام على صياغة السياسات وسن القوانين وتشريع الانظمة المالية العالمية؟ ام على تعزيز قوانين الاسواق المالية العالمية وتنظيمها وضبط تقلباتها؟ ام على استحداث منظومة رقابية عصرية تواكب احدث الاساليب والمعايير الدولية لتشديد قبضة الرقابة المالية على المصارف العالمية الكبرى؟ ام على تقييم الاداء العام للقطاعات المالية العالمية؟ ام على وضع التدابير الاشرافية والاستراتيجيات الوقائية لحفظ حقوق المستثمرين وحماية عامة الناس من دهاليز قراصنة البورصة وبراثن سماسرة المال، الامر الذي سيتيح لهم فرصة الحفاظ على اموالهم واستثماراتهم التي عرقوا في جمعها وذاقوا الامرين في ادخارها من التبخر والضياع؟ ام على اجراء اصلاحات مصرفية (كنهج خطط انقاذ مالي او عقد صفقات دعم مالي للبنوك والمصالح التجارية والمؤسسات المالية المتعثرة في حالات الطواريء)؟ ام على لعب دور اكثر فاعلية في البنك الدولي او صندوق النقد الدولي (الذي يتحكم في التجارة والتمويل الدوليين) او الاثنين معا من اجل العمل المشترك على وقف نزيف الازمة المالية واخراج الاقتصاد العالمي من مستنقع الركود الحالي؟
مواضيع كثيرة مطروحة على طاولة البحث والنقاش السعودية نتمنى ان نرى لها ترجمة ملموسة على ارض الواقع في المستقبل القريب باذن الله تعالى من خلال تكثيف اطر التعاون والتشاور وتنسيق الجهود مع باقي الدول الخليجية والعربية، وتبادل الاراء وتقاسم الخبرات وتقاطع الرؤى مع البنوك المركزية ومؤسسات النقد والوزارات المالية والهيئات الرقابية (الفاعلة في مجالات ضبط الاسواق المالية وتقييم المخاطر وتشديد المعايير الدولية على المؤسسات والادوات المالية) املا في الوصول بالمحصلة النهائية الى تمثيل عربي مشترك يقوم على اساس رؤية شمولية واحدة في وضع اجراءات تشريعية وتدابير تنظيمية وتطبيق مقاييس قانونية ومالية موحدة بحيث نكون قادرين معها على حماية اقتصادياتنا العربية من مخاطر ازمات اقتصادية محتملة وانهيارات مالية مماثلة (لا سمح الله) حتى نتمكن بعونه تعالى من تحقيق الاستقرار المالي المنشود الذي يوفر لوطننا العربي الكبير الامان الاجتماعي والرخاء الاقتصادي والتنمية المستدامة، داعين الله جلت قدرته ان يحفظ امتنا العربية والاسلامية من مصائب المغرضين وان يصون تراب بلادنا من المحيط الى الخليج من كل شر ومكيدة "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" (صدق الله العظيم)، ان الله سميع مجيب وهو على كل شيء قدير.
__________________
مستشار اداري وخبير اقتصادي
dekh@myway.com
عمان – الاردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق