الجمعة، يوليو 10، 2009

الكَفْتَةُ المقليّةُ بعذابات الأسرى

د. فايز أبو شمالة
الكَفْتًةُ في اللغة: هو اللحم الذي يُدقُّ، ويجعل منه أصابع تشوى، وتؤكل، والكَفْتَةُ في حياتنا الفلسطينية هو ذلك المذاق الأطيب على وجه الأرض، المذاق الذي انطبع في وجدان أبناء جيلي مهما كبرنا، وكبرت معنا التجربة، والمعرفة، والخبرة لأشياء كثيرة، فلن نجد ألذ طعماً من تلك "الكفتة" التي كانت توزع علينا في مراكز التغذية التابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة، وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. فكيف ننسى ما عشقته الطفولة!.
كانت الكَفْتًةُ تصنع من علب اللحمة التي تحصل عليها الأونروا، بعد أن يضاف إليها البرغل لزيادة الكمية، فإذا بلونها بعد القلي داكناً، محروقاً في الزيت، وكانت طفولتنا جائعة، تأكلها بنهم لا يوصف، ولا تمحوه الذاكرة التي مزجت المذاق بأمل العودة إلى فلسطين، في تلك السنوات الأولى من الهجرة عندما كان الجوع سيد كل البيوت، وكان الطعام يأتي خجلاً، وعلى عجلٍ من خلال مراكز توزيع التموين التابعة للأنروا، لتتنوع الوجبات على مدار الأسبوع من العدس المجروش، إلى العدس المدمس، إلى فتة العدس، ومن الفول المجروش إلى الفول المدمس، ومن الملوخية والفول إلى السلق والعدس، وكل أنواع البقوليات ما عدا اللحمة، والفاكهة التي كانت من الممنوعات، والمحرمات.
تلك الأيام لم يكن في أوساط الفلسطينيين تنظيمات فلسطينية، ولم يكن بين الفلسطينيين رموز سياسية، ولا مسميات وظيفية، ولا شخصيات قيادية، ولا رئيس، ولا رئيس وزراء يعقدا قرانهما على فلسطين، ولا مجلس تشريعي، ولا مجلس وطني، كانت فلسطين لشعبها الجائع، وكان الوطن حاضراً في قلوب الناس، وكانت العودة على مسافة قصيرة من الأمل، والحلم بالعودة إلى فلسطين بحجم الجوع، وكان النصر لا يعني إلا العودة إلى فلسطين، ولم يخطر في خلد أي فلسطيني أن غزة والضفة الغربية ستصير هي الحلم الفلسطيني بعد أربعين عاماً من الثورة، والمقاومة، وعشرات ألاف الشهداء، ومئات ألاف الجرحى، ومئات ألاف السجناء، والأرامل، والأيتام، والدمار والحصار، والإصرار على النهج القيادي نفسه.
تعمدت أن أذكر بعض الساسة بالماضي الذي يدوسون عليه بحذائهم الأجنبي، فإذا بهم يدوسون على المبادئ والقيم التي ضحت الشعوب العربية من أجلها، وإذا بهم يدوسون على مقومات انطلاق منظمة التحرير، تعمدت أن أتذكر الماضي أمام إصرار بعض الساسة الفلسطينيين على أن يعيش اللحظة فقط، ليغرق في ملذات المنح المالية، والرواتب التي تباعد بين الفلسطيني وأرضه مقدار سنة ضوئية في آخر كل شهر.
ستظل الكَفْتَةُ التي وزعتها الأونروا أطيب من المذاق العفن الذي يأتي إلينا عبر الدول المانحة، والمُصَنّع على يد الخبراء الإسرائيليين، والمشروط بتواصل النوم عن فلسطين، وتواصل اللوم لكل من لا يشهد أنها صارت إسرائيل، وأن الفلسطيني الذي يسكن الأردن، واحتضن منظمة التحرير، وقدم معها التضحيات كان ساذجاً، وأن الفلسطيني الذي احتضن منظمة التحرير في لبنان لعشرات السنين، وقدم دمه وأولاده كان غبياً، وأن كل فلسطيني صدّق بالثورة كان أبله، ومغفلاً، وفقط السياسي الذي أقام مملكة المنافع، والارتزاق، وتكسب المال هو الذي فاز بالغنيمة كلها، وبني مجده من دم الشهداء، وأثث قصره من أشلاء المقاتلين، وزين جدران مكتبه بدمع الأرامل، ويأكل الكَفْتَة المقلية بعذابات الأسرى.

ليست هناك تعليقات: