الاثنين، أبريل 27، 2009

الديمقراطية بين العوائق والاستحقاقات

زهير الخويلدي

" إن الديمقراطية هي أبعد المفاهيم السياسية عن الطبيعة وهي وحدها تسمو في المقصد على الأقل على شروط المجتمع المغلق، إنها تنسب للإنسان حقوقا لا يجوز انتهاكها ولكي تبقى هذه الحقوق مصانة توجب على الجميع أن يخلصوا لواجبهم إخلاصا لا يتبدل."[1]

ظلت الأنظمة التي تزعم الديمقراطية منذ بداية المجتمع الانساني مجرد ديمقراطيات زائفة والإنسانية إلى اليوم مازلت تبحث عن دولة ديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة تجمع بين النجاعة والعدالة وبين السيادة والمواطنة وبين السؤدد والمجد وكأن النظام الديمقراطي لا يناسب هؤلاء الخطائيين من بني البشر الذين يصعب علينا أن نتصور شعبا يظل مجتمعا دون انقطاع متفرغا في مناقشة الشؤون العمومية" [2]،وبالتالي فإن شعب من الآلهة هو فقط بإمكانه أن يحكم نفسه بطريقة ديمقراطية".

لقد تبادر إلى الأذهان أن الديمقراطية هي حكم الشعب للشعب وأنها احترام المجتمع السياسي الذي يدبر الشأن العام للمجتمع المدني الذي يمثل الشأن الخاص وأنها ناشئة عن تشكل الإرادة العامة عن طريق تعاقد حر بين الأفراد وأن تأسيس الدولة هو أمر ممكن من جهة النظرية الفلسفية وجائز من جهة الممارسة سواء بجعل مدينة الأرض تحاكي مدينة السماء كما يفعل اللاهوتيون أو بإيجاد تناغم مع نظام الكوسموس عند الإغريق ومع الطبيعة البشرية عند فلاسفة الحداثة السياسية ومع نظام العقل وتجليه في التاريخ عند هيجل ولكن كل هذه الأدبيات هرمت بسرعة وبان بالكاشف أنها تعاني من العديد من النقائص وتحولت الدولة الى "أبرد مسخ من المسوخ الباردة تكذب بكل رصانة عندما تقول:"أنا الدولة أنا الشعب""[3] وأصبحت حسب باكونين " كلية مفترسة تعيش على قرابين بشرية و جهاز يضحي بالحرية الطبيعية وبمصالح كل واحد في سبيل مصالح جميع الناس"[4] وبالتالي فهي تحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة هيكلة وعرضها على غربال ديمقراطية المعرفة نفسها والشروع الجدي في البحث عن آلية ما بعد ديمقراطية تنهض بسياسة الحضارة وبتدبير فن الحياة على المعمورة.

ان الذي يجب تغييره هو مفهوم الدولة نفسه وكل العدة المفاهيمية التي تستوجبها فهي لم تعد الجسم السياسي والحقوقي الذي ينظم العلاقات بين الأفراد بل أصبحت الإدارة السياسية التي تعمل على كبح القوى اللاعقلانية المتصارعة في المجتمع وتتفهم دوافعها من أجل التمييز بين الأصدقاء والأعداء.

"الديمقراطية لا توجد البتة بذاتها" والاقتراع العام لا يكفي البتة لتعريفها وليجعل منها نموذجا للحكم الصالح لاسيما وأن الاستعصاءات التي تمنع ظهورها كثيرة والأمراض التي تعاني منها لا تحصى ولا تعد بل إن بعض الأنظمة الملكية يمكنها أن تنتج قوانين مستقيمة وحكومات عادلة ومؤسسات ترسم الحدود لكل شخص وتحقق المساواة. فلماذا تعذر على الإنسانية معايشة الديمقراطية معايشة حقيقية؟ فماهي العوائق والصعوبات التي تحول دون قيام نظام ديمقراطي؟ وماهي الشروط التي يجب أن تتوفر لكي يتمتع الأفراد بمجموع الحقوق الأساسية التي يضمنها الحكم الراشد؟

إن ما نراهن عليه هو تفادي الاستبداد الديمقراطي الذي يشرع للأفراد الاهتمام بالرغبات الأنانية والعزوف عن المشاركة الفعلية في الشأن العام والعمل على اكتساب عقلية ديمقراطية تكرس حقوق الموطنة في جميع تصرفات ومواقف ومعاملات الأفراد في الفضاء العمومي.

1- في الحاجة الى الديمقراطية:

"إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية فيقع فيه التنافس غالبا وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال."[5]

الديمقراطية تصور نظري وفكرة فلسفية أكثر منها تجربة معاشة وواقع تاريخي، وهي مفهوم معقد يخفي أكثر مما يظهر متعدد الأبعاد وتختلف حوله وجهات النظر، ويعود هذا الثراء والغموض الى إسهامات العديد الثقافات المختلفة في بلورته والانخراط في النقاش حول القضايا التي يطرحها ، وقد انتهى بالبعض الى اعتبار الديمقراطية بمثابة تراث مشترك للإنسانية وقيمة كونية شأنها في ذلك شأن منظومة حقوق الإنسان وأصبحت الديمقراطية مطلبا شعبيا وحلم كل كائن وبالتالي تلقى قبولاً عاماً ورواجا كبيرا عند مختلف الشعوب والنظم السياسية التي تشهدها المعمورة في العصر ما بعد الصناعي.

تعني الديمقراطية ايتيومولوجيا demoscratos حكم الشعب نفسه بنفسه أي ممارسة الشعب للسيادة وفقا لإرادته العامة ولكن يجب أن نلاحظ أن الديمقراطية هي في ذات الوقت سياسية أو اقتصادية واجتماعية و ترتبط بالحرية والعدالة. فماهي مختلف النظريات التي تطرقت إلى الديمقراطية؟

1- الديمقراطية السياسية تعني إطلاق الحريات المدنية: حرية التفكير وحرية التعبير وحق الاجتماع والتنظم من أجل تكوين الجمعيات والانتماء النقابي والمشاركة في الانتخاب الحر والنزيه... كما تسمح بالتعددية السياسية والاختلاف في الآراء والحوار وتسهر على حق الأمن والملكية والعدالة.

2- في حين تتمثل الديمقراطية الاقتصادية في مشاركة العمال في إدارة شؤون المؤسسات التي يعملون بها وفي إقرار حق كل مواطن في العمل والاستمتاع بأوقات ألفراغ الراحة وبالتالي حقه في دخل يحفظ له كرامته الإنسانية.

3- وتتمثل الديمقراطية الاجتماعية في تمكين الأفراد من العيش والأمن و حماية حياتهم من كل اعتداء و بالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية بمعنى التوزيع المنصف للخيرات.

4- أما الديمقراطية الفردية فتقوم على عدم تفضيل الدوافع الاجتماعية على الدوافع الفردية لأن التقدم الاجتماعي لا يتم إلا عن طريق التقدم الفردي ولذلك ينبغي أن تشجع الدولة الفرد وتحترمه وأن تفسح له المجال لإبراز مواهبه وتربيه على الاعتزاز بكرامته وتشعره بمسؤوليته المادية والمعنوية وتشجع التعاون بين الأفراد وتؤسس المساواة بين الناس بغض النظر عن الاختلافات والفوارق، وكما يقول برتراند رسل:"إن ظهور المبدأ الديمقراطي الحديث يتنافى والاستغلال الفردي أو الاجتماعي. انه يدعو إلى وجوب الاهتمام بالفرد اهتماما شاملا والى ضرورة نشر العدل والحرية والمساواة بين أفراد الشعب جميعا."

إن الديمقراطية حاجة حقيقية يطالب بها الجميع وحتمية تاريخية ينبغي القيام بمنعطف من أجل انجازها وهي كذلك مطلب فردي واقتضاء جماعي بعد أن مل الناس التسلط والانفراد بالرأي والتهميش والإقصاء وبعد شهدت العلاقات بين الدول حالة نكوص وارتداد نحو الحروب والاستعمار ولما تم إعادة إحياء مقولات قروسطية مثل الهمجية والجاهلية والعرق الأرقى والملة المختارة وانتشرت انفعالات سلبية نتيجة الشمولية وانغلاق العالم السياسي مثل الحزن والخوف وكراهية الآخر والغريب والمهاجر.

يجب أن نلاحظ أن الديمقراطية باعتبارها حكم الشعب للشعب ليست إلا مثالا يصعب تحقيقه في الواقع فـ"روسو" ينقد فكرة التمثيل الذي تمارس وفقه الديمقراطية , فممثلو الشعب هم الذين يمارسون السلطة باسمه عبر الانتخاب، ذلك أن "روسو" يرى أن الديمقراطية مباشرة أو لا تكون، وهو ما لا يمكن تحقيقه. و من هذا المنطلق بالذات يعتبر "أفلاطون" أن الديمقراطية هي اقل النظم السياسية سوءا, فهي نظريا النظام المثالي و لكن مثالي لا يمكن تحقيقه في الواقع".

من هذا المنطلق بالذات حذّر "دي توكفيل" من كون الديمقراطية يمكن أن تتحول إلى اضطهاد في ظل تكريس النزعة الفردانية بوصفها الميل إلى إثبات الذات على حساب قيم الآخرين في التكافل والتضامن. وهذا الميل يتمظهر في النظريات التي تبجّل حقوق الفرد على المجتمع إذ تبقى مصلحة الفرد فوق كل التزام سياسي، والدولة الليبرالية لا تكون ديمقراطية بحق إلا إذا حافظت على قيم الحياة الفردية.

2- عوائق الديمقراطية:

"مشكل المستبد ليس إلا الإسقاط الذاتي لمشكل السلطة التي لا يتمثل مرضها في إرادة الأفراد السيئة وعنف الأمير وجبن الرعايا بل في تواطأ عنف الواحد مع جبن الجميع في صورة فاسدة فريدة، في صورة آثمة...تشكل المستبد ونظيره المهان."[6]

إن نقيض الديمقراطية والأمراض التي تعاني منها هي الاستبداد والطغيان والشمولية والبيروقراطية والعنصرية وشعار المجتمع غير الديمقراطي هو "الثبات والهرمية والهيمنة".

ونعنى بالاستبداد Despotisme صفة الحكومة مطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب" كما يرى عبد الرحمان الكواكبي والحكم الاستبدادي هو القائم على مبدأ حق الأقوى ولكنه أيضا يمكن أن يرتكز على ماهو عادل ومستنير. يصرح مونتسكيو حول هذا الموضوع:"يوجد نوعان من الاستبداد: الأول مادي ويتمثل في العنف الذي تمارسه الدولة والثاني هو الاستبداد بالرأي ويتجلى عندما تفرض الدولة رقابة على التفكير."

إن هم المستبد الأوحد هو ممارسة السلطة والاستمرار في الحكم والاستعباد التام للناس وفي ذلك يقول ديدرو:" ليس من مصيبة تحل بأمة سوى حكم عادل ولطيف ومستنير لكنه استبدادي" وهذا ما عناه دي توكفيل بالاستبداد الناعم والهادئ وسماه الاستبداد الديمقراطي وهو أشد فتكا من الطغيان,

أما الطغيان tyrannie فيبتدئ حيث تنتهي سلطة القانون ويعرفه جون لوك بأنه:" عبارة عن ممارسة السلطة التي لا تستند إلى أي حق...وهو يقوم على استخدام امرئ ما السلطة التي آلت إليه من اجل مصلحته الخاصة لا من اجل خير المحكومين"، ويضع شرط لتحول الحكم إلى طغيان وهو" عندما يجعل الحاكم إرادته قاعدة السلوك عوضا عن القانون وعندما تتجه أوامره وأفعاله نحو إرضاء رغباته وشهواته...عوضا عن المحافظة على أملاك شعبه".

وتعني الشمولية totalitarisme نزعة استبدادية ناعمة وهادئة تقوم على استعباد الأفراد وإخضاعهم بطرق شتى إلى نموذج موحد يتمثل في فرض مشاريع سياسية وعقائدية وإيديولوجية واقتصادية عليهم يشرعها قائد واحد يبسط سلطانه على جميع الأفراد وكل المؤسسات. وقد اقترنت الشمولية بظهور أنظمة سياسية مغلقة وكليانية كالنازية والفاشية والستالينية حيث صرح ذات مرة بينوديتو موسيليني:"ان كل شيء في الدولة، لاشيء خارج الدولة ولاشيء ضد الدولة" ،وقد وصف الروائي كافكا النظام الشمولي بالدولة الشبح حيث يكون كل شخص عدو نفسه وفاقدا لخصائص تميزه عن غيره.

في هذا الصدد درست حنا أرندت أسس الشمولية وتبين لها:" النظام الشمولي هو الذي يحول دائما الطبقات الى كتل ولا يضع دكتاتورية الحزب الواحد مكان نظام الأحزاب بل حركة جماهيرية تنقل مركز السلطة من الجيش إلى الشرطة". وتقصد أنه النظام الذي يرفض الحق وحرية التفكير ويسعى إلى تكريس الاعتباطية والهيمنة حيث "ينزع باستمرار إلى استبدال المبادرات الشخصية للمحكومين بمبادراتها التحكمية الخاصة."

أما البيروقراطية فتفيد التنظيم اللاعقلاني للحياة الاجتماعية وغياب الحياد والمصداقية والشفافية في التسيير الإداري وعدم الاحتكام إلى قيم الجدارة والكفاءة والإتقان والتخلي عن تحمل المسؤولية وتفشي العديد في الأمراض في المؤسسات العمومية مثل التحيز والرشوة والمحسوبية. إن الديمقراطيات الحديثة لها طابع بيروقراطي بشكل رئيسي وبالتالي فهي تجنح إلى التقليص من فضاء الحرية, بل تسعى إلى جعلها بدون جدوى وفعالية وبدون معنى, لاسيما وأن البيروقراطية تبدو وكأنها "سلطة بدون هوية سياسية".

في حين أن العنصرية racismeتقوم على التمييز والمفاضلة والإقصاء والاستبعاد من دائرة الإنسانية وتحصر المواطنة في منطق الملة والعرق واللغة وحول هذا الموضوع يقول أدغار موران:"ستظل العنصرية جرح العالم وجرح الإنسان بحيث يمكنها أن تسكن في الأوقات الهادئة من التاريخ لكن أدنى اضطراب داخل مجموعة تجعلها تولد من جديد[7]."

ان هذه الأفكار العنصرية تحول دون تمتع الناس بحقوق المواطنة وتمنع التواصل والتضامن داخل المجتمع الواحد وتربى الناس على الحقد والخوف والتعصب والكراهية وهي ليست حكرا على المجتمعات الأقل حظا في التنمية بل نزعة هي شيطانية متغلغلة في أشد العقول تحضرا.

فماهي السبل الكفيلة بتجاوز هذه العاهات المستديمة والمساعدة على غرس نبتة الديمقراطية؟

3- شروط قيام الديمقراطية:

" لقد بتنا نعتقد أن الديمقراطية قد انتصرت وأنها تفرض نفسها اليوم باعتبارها الشكل الطبيعي للتنظيم السياسي فضلا عن كونها المظهر السياسي الذي تتجلى من خلاله حداثة قائمة على اقتصاد السوق من حيث شكلها الاقتصادي وعلى العلمانية من حيث تعبيرها الثقافي"[8].

لكن ماهو النموذج الديمقراطي الذي نعمل على صنعه؟ هل هي الديمقراطية الشعبية المباشرة أم أنها الديمقراطية التشاركية التوافقية؟ هل تقوم على حكم الأكثرية أم على ضمان حقوق الأقلية؟ وهل تؤدي إلى الوحدة والتطابق التام أم تحترم التنوع والتعدد وتبقي على الاختلاف والمنافسة؟

إذا كان "في النظام الديمقراطي يفوض الفرد حقه الطبيعي إلى الغالبية العظمى من المجتمع" فإن "أكثر الدول حرية هي تلك التي تعتمد قوانينها على العقل السليم" وإن" السيادة الحاكمة هي المبدأ الذي ينبغي أن يكون الأساس الذي تقوم عليه كل دولة سليمة التكوين". في هذا السياق يقول اسبينوزا :" ليست الغاية من تأسيس الدولة تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات وآلات صماء وإنما المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم حتى تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام." [9]

من البين إذن:"أن الحالة المدنية للمواطن تقوم على ثلاث مبادئ قبلية:

1- حرية كل عضو في المجتمع من جهة كونه إنسانا

2- المساواة بين كل إنسان وأي إنسان آخر من جهة كونه واحد من الرعية

3- استقلالية كل عضو من الجماعة من جهة كونه مواطنا.

أن هذه المبادئ... هي قوانين تسمح بإمكانية تأسيس دولة تمتثل إلى مبادئ العقل في مجال الحقوق الخارجية للبشر بصفة عامة."[10] من هذا المنطلق إن غاية ومبدأ "الديمقراطية هي تخليص الناس من سيطرة الشهوة العمياء والإبقاء عليهم بقدر الإمكان في حدود العقل بحيث يعيشون في وئام وسلام"[11]

تعرف الديمقراطية بخاصيتين هما الحد من السلطة وتلبية الأغلبية مطالب الأقليات، في هذا المعنى يصرح أدغار موران:" إن احترام التعددية يعني أن الديمقراطية لا يمكن إن تكون متطابقة مع ممارسة ديكتاتورية الجماعة على القليات بل يجب إن تضمن حق الأقليات وحق المحتجين في الوجود وفي التعبير كما يجب إن تسمح بالتعبير عن الأفكار الشاذة والمنحرفة."[12]

يرى ألان تورين أن انخراط السلطة السياسية الديمقراطية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان جعلها تصارع على جبهتين، فمن ناحية تصارع ضد السلطة السياسية المطلقة الاستبدادية والكليانية كما أنها من جهة أخرى تعمل على وضع حدود للتصور الفرداني المطلق. وكنتيجة لهذا الصراع فإن النموذج الديمقراطي ينبني على مبادئ الحرية والوعي بالحقوق الشخصية والحقوق الجماعية والقدرة على تدبير الاختلاف والتعدد والاعتراف بتعدد المصالح والأفكار. وعليه فإن طبيعة السلطة السياسية الديمقراطية تتحدد في الاعتراف بالحقوق الأساسية والشرعية المبنية على التمثيل الاجتماعي للقادة وسياساتهم بالإضافة إلى المواطنة أو الانتماء إلى المجتمع على أساس الحقوق.

إذا كان ماكس فيبر يربط وجود الدولة بنوع خاص من العنف المشروع، وهو عنف تحتكره وتخول لنفسها ممارسته بشكل قانوني لحماية النظام العام، فإن بول ريكور يميل إلى ربط الدولة بالسلطة عوض عن العنف المشروع ،لأن فكرة السلطة لا تختزل إلى مجرد فكرة العنف كما أن منح الدولة امتياز العنف لا يعني تعريفها انطلاقا منه وإنما تعريفها انطلاقا من السلطة. والفارق بينهما هو أن العنف يحيل على استعمال القوة لإخضاع الآخرين، بينما تدل السلطة على الإمكانية والقدرة التي يتوفر عليها فرد أو جماعة فتمارس تأثيرها على الآخرين وتوجه تصرفاتهم بدون إكراه أو قوة. ولهذا فإن بول ريكور يضفي على الدولة طابعا مزدوجا عقلانيا وتاريخيا، ويتجلى الطابع المعقول للدولة في وظيفتها التربوية بحيث أن دولة الحق تشرع قواعد تراقب بها عمل الحكومة وتحد من عشوائيتها مع حرصها الشديد على تربية الجميع على الحرية على طريق المناقشة. ويمثل الطابع التاريخي الوجه الآخر للدولة من حيث كونها قوة وسلطة وليست عنفا.

لكن ما القول في الديمقراطية الليبرالية حسب تصور "جان راولز"؟ وهل يمكن أن تجمع بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية؟

خاتمة:

" يأتي تحديد السلطة داخل الدولة من استقلالية كل من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية... ومن التعددية الحزبية وتعدد مصادر المعلومات ومن الإقرار بحقوق الأقليات"[13].

ان مرتكزات الديمقراطية الليبرالية هي ضمان الحرية الفردية في ظل سيادة القانون وذلك بألا تطغى الأغلبية على الأقلية أو تهيمن الأقلية على الأغلبية ،كما تفضل الليبرالية الديمقراطية التمثيلية على الديمقراطية المباشرة، والدستور على سيادة الشعب، والحقوق - الحريات على الحقوق - الواجبات. ورغم ذلك تعاني الديمقراطية من انكماش يتمثل في انصراف الفرد إلى دائرة حياته الخاصة، وفي اللامبالاة بالفضاء العمومي، وعدم الاكتراث بالسياسة وانخفاض حرارة الحس الوطني، واللهاث وراء المتع الدنيوية أو اقتناص بالملذات وفي تسليم الأمر إلى القدر بنوع من الرواقية.

تحاول الديمقراطية الليبرالية أن تجمع بين محاسن الديمقراطية الاجتماعية وهي ضمان الحقوق الأساسية التي تتمثل في التعليم والصحة والسكن والشغل والعدالة ومحاسن الديمقراطية السياسية وهي التعددية والحريات والملكية وتنتقل من دولة الرفاه ومجتمع الوفرة الى دولة العناية ومجتمع التضامن.

حاول راولز استعادة الأمل الديمقراطي بفضل مفهوم العدالة التوزيعية التي تستهدف الفئات الأقل حظا والأكثر حرمانا في المجتمع، وإحياء ثقة المواطنين في المؤسسات الدستورية، وبعث التضامن في نفوس الأفراد. وفي نفس التمشي دعا أدغار موران إلى تبني سياسة كوكبية للحضارة ـاخذ بعين الاعتبار الطابع الثلاثي للوجود الانساني: الفرد والمجتمع والنوع فيتم تطوير علاقة الفرد بالمجتمع في اتجاه تحقيق المصلحة المشتركة وتطوير علاقة الفرد والمجتمع بالنوع في اتجاه المحافظة عليه وتمكينه من الوجود الأحسن الذي يحقق إنسانية الإنسان ويرجع له خاصيات الحميمية والتفرد والإبداعية التي فقدها في المجتمع ذي البعد الواحد المعولم.

من هذا المنطلق أكد موران على ضرورة اعتماد ديمقراطية متعقدة complexe تشكل نسقا سياسيا مركبا يقنن ذاتيا نفوذ الدولة بضمان الحقوق الفردية وحماية الحياة الخاصة والفصل بين السلطات. يصفها موران كما يلي:" تحتاج الديمقراطية إلى توافق أغلب الموطنين واحترام القواعد الديمقراطية، لكنها في نفس الوقت تحتاج إلى التعددية والى أنواع من الصراعات"[14].

هذه الديمقراطية التوافقية ينتجها المواطنون وتعمل هي بدورها على إنتاجهم، إنها ديمقراطية تحمي التعددية في الأفكار والآراء وتبقي على التنوع العرقي والاثني والثقافي وتعمل على إدارة الصراع وتتفادى إلغاء التنافس والتوحيد القسري ونجده يقول في هذا الأمر:"الديمقراطية تتطلب في نفس الوقت التوافق والتعددية والصراعية"[15].

تمثل الديمقراطية نسقا مركبا من عدة عناصر اجتماعية وحقوقية واقتصادية وفردية ومعرفية مترابطة ومتفاعلة وتكون نسيجا متشابكا تكون العناصر أجزاء داخل الكل ويكون الكل المتوحد مشتملا على عناصر متعددة حيث يظل النزاع قائما بين الجزء والكل والعرضي والجوهري وبين الثابت والمتغير وبين الواحد والمتعدد وبين الحق والسلطة. ورغم كون السلطة ضرورية للتنظيم الاجتماعي فإنها تبقى باعتبارها علاقات هيمنة غير محتملة، بما أن كلّ الناس متساوين في الحقوق مبدئيا، لذلك فإن فن السياسة لا يتمثل في شيء آخر سوى إعطاء أساس مشروع لعلاقات السلطة حتى لا يحصل تطابق السلطة بالهيمنة التامة وتطابق الطاعة بالعبودية.

تقوم الدولة الليبرالية على مبادئ إجرائية يتم تحديدها والإجماع على معناها بعد تجربة شاقة وطويلة من النقاش والتفاوض بين المواطنين وهي الحرية والحق والفرد والملكية والمنافسة والعدالة والتسامح، واللافت للنظر أن الحرية هي حالة الفرد في علاقته مع المجتمع المدني والسلطة السياسية وتدل أولا على حرية طبيعية مطلقة وفي مستوى ثان على حرية مدنية نسبية تعني استقلالية الإرادة وغياب كل أشكال القهر والإلزام وتفترض طاعة القانون وليس الخضوع له، في هذا السياق يقول ماركس:" الحرية هي قدرة الإنسان على فعل ما لا يلحق ضرار بحقوق الآخرين"[16].

في حين يحمل معنى الحق على ما يخول للإنسان الفرد بموجب طبيعته من حرية وملكية وحفظ البقاء ويشير أيضا إلى الحق المدني الوضعي وهو التصرف وفق ما يشرعه القانون وما يبيحه أو يمنعه، ويفيد مفهوم القانون مجموع الضوابط والقواعد التشريعية العامة التي تحدد حقوق المواطن وواجباته وما يحق له المطالبة به وما يجب الامتناع عن فعله. وتجمع الدولة في النظرية الليبرالية بين العدالة والتسامح ولكنها تعرف العدالة على أنها تكافؤ الفرص في إطار من المنافسة النزيهة بين القدرات والمؤهلات وتوزيع ما يساعد الفرد على التمتع بحياة الرفاه وتحقيق الثراء، في حين أن التسامح هو قبول الغير والاعتراف به كما هو والسماح له بأن يعبر عن رأيه بحرية حتى وأن كان مخالفا للسائد.

من هذا المنطلق فان المشكل السياسي للسلطة يتمثل في كيفية وضع حدود لها حتى لا تتحول إلى استبداد تام. ويرى مونتسكيو أن السلطة وحدها يمكن أن تقف في وجه السلطة ومن هنا تأتي فكرة التفريق بين السلطات الثلاث. ودولة الحقوق هي الدولة التي تهدف إلى وضع حد لإمكانات استغلال النفوذ الذي يتولد عن غياب المعايير القانونية والحقوقية. إن وجود سلطة مضادة والتشريع للتعددية السياسية وتفعيل المشاركة في الشأن العام مشاركة حقيقية تمثل الشروط الأساسية لتحقيق مواطنة فعلية ولتكون السيادة ممارسة من قبل الشعب لذلك تتقدم الديمقراطية باعتبارها النظام السياسي الأفضل أو بعبارة أفلاطون " الأقل سوءً " في تنظيم الوجود السياسي للإنسان.

يمكن أن تكون الديمقراطية مجرد اتجاه تسير في ركبه البشرية ومثل أعلى تقترب من تحقيقه باستمرار وبحث عن خلاص من عذاب يعيشه الإنسان في هذا العالم، وهي لذلك تعلقا بالمثل الأعلى واليوتوبيا للتعبير عن الاحتجاج من الوضعية المزرية. لكن لنتساءل مع جيل دولوز وفليكس غتاري:" لماذا يناضل الناس من أجل عبوديتهم كما لو تعلق الأمر بخلاصهم؟...لماذا يتحمل الناس منذ قرون الاستغلال والإذلال والاستعباد إلى الدرجة التي يصبحون فيها طلابا لهالا فقط للآخرين بل لأنفسهم؟"[17]

فكيف يكون الارتفاع من حالة الرعية إلى درجة المواطنة هو شرط إمكان قيام النظام الديمقراطي؟ وما قيمة المواطنة في ظل دولة لا تتمتع بسيادة على أراضيها؟ هل يجوز التشريع للتخلي عن السيادة من أجل إعطاء حق الموطنة العالمية والمشاركة في بناء الدولة العالمية؟

كاتب فلسفي


المراجع:

ألان تورين، ماهي الديمقراطية؟ ، حكم الأقلية أم ضمانات الأقلية؟، ترجمة حسن قبيسي، دار الساقي، بيروت الطبعة الثانية 2001.

أدغار موران، تربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي،

اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر،

تزفيتان تودوروف، اللانظام العالمي الجديد، ترجمة وليد السويركي، أزمنة، عمان ،الأردن.

هنري برجسن، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم.

عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، طبعة دار العودة، 1981.

كارل ماركس، المسألة اليهودية، ترجمة نايلة الصالحي، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، طبعة أولى 2003.

فريدريك نيتشه، هكذا حد زارادت ترجمة فليكس فار، منشورات المكتبة الأهلية بيروت،

Emmanuel Kant, théorie et pratique, section II, Trad. Proust, Coll. GF Flammarion 1994.

Edgar Morin, introduction à une politique de l’homme, Edition Seuil, 1965.

Gille Deleuze, Félix Guattari, Capitalisme et Schizophrénie, T1, Edition de Minuit, 1972.

Mikhaïl Bakounine, des Textes, présenter par Arvon Michel Henri, Seghers. 1996.

Paul Ricœur, Histoire et Vérité, Edition ;Cérès, Tunis, 1995 .


-------------------

[1] هنري برجسن، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم، ص 291

[2] جون جاك روسو، العقد الاجتماعي،

[3] فريدريك نيتشه، هكذا حد زارادت ترجمة فليكس فار، منشورات المكتبة الأهلية بيروت، ص72

[4] Mikhail Bakounine, des Textes, présenter par Arvon Michel Henri, Seghers. 1996. Pp99

[5] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، طبعة دار العودة، 1981، ص121

[6]Paul Ricœur, Histoire et Vérité, Edition ;Cérès, Tunis, 1995, pp134

[7] Edgar Morin, introduction à une politique de l’homme,Edition Seuil, 1965, pp92

[8] ألان تورين، ماهي الديمقراطية؟ ، حكم الأقلية أم ضمانات الأقلية؟، ترجمة حسن قبيسي، دار الساقي، بيروت الطبعة الثانية 2001، ص13

[9] اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر،

[10] Emmanuel Kant, théorie et pratique, section II, Trad. Proust, Coll. GF Flammarion 1994 ,pp63

[11] اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ص383

[12] أدغار موران، تربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، ص101

[13] تزفيتان تودوروف، اللانظام العالمي الجديد، ترجمة وليد السويركي، أزمنة، عمان ،الأردن، ص53

[14] أدغار موران، تربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، ص101

[15] أدغار موران، تربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، ص101

[16] كارل ماركس، المسألة اليهودية، ترجمة نايلة الصالحي، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، طبعة أولى 2003، ص38

[17] Gille Deleuze, Félix Guattari, Capitalisme et Schizophrénie, T1, Edition de Minuit, 1972, pp37

ليست هناك تعليقات: