الاثنين، يناير 19، 2009

خدعة المنتصر في حرب غزة

محمد حسن

ما أن وضعت الحرب على قطاع غزة أوزارها حتى سارع الساسة المتحاربين في كلٍ من غزة وتل أبيب ليعلن أنه المنتصر، وكأن المشهد تسابق في الأدوار أو ساحة اعتراك جديدة أنتقل فيها الصراع الميداني العسكري إلى مرحلة جني الثمار وهو الصراع الإعلامي والسياسي لجلب المكاسب ونتائج الحرب، لدرجة أن الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني أخذ يستعرض خسائر عدوه ليكشف للرأي العام أنه هو المنتصر وتمكن من إلحاق الهزيمة بعدوه.

وفي هذا الخضم والجدال سنحاول أن نثبت أن النصر كان حليف الشعب الفلسطيني في هذه الحرب الشرسة والبشعة التي راح ضحيتها فلسطينياً ما يعادل : ( 1400 شهيد وأكثر من 5500 جريح منهم 400 في حالة موت سريري و 300 جريح يعانون من إعاقة مستديمة، أما على صعيد الممتلكات والبنية التحتية الفلسطينية، فقد دمرت الدبابات والطائرات الإسرائيلية أكثر من 4000 منزل تدميراً كاملاً، بينما تضرر أو تصدع أكثر من 23 ألف منزل ومؤسسة، أما على صعيد الممتلكات الخاصة فهناك إحصائيات خيالية من الأراضي الزراعية، وإجمالاً قدرت تكلفة إزالة الركام والردم بحوالي 300 مليون دولار وأن تكلفة العمار قد تبلغ 6 مليار دولار وهذه كلها إحصائيات أولية وهي مرشحة للزيادة).

وأمام جريمة الحرب وهول المشاهد البشعة وشراسة آلت الحرب الإسرائيلية التي لم يعهدها الشعب الفلسطيني منذ تلك المجازر التي ارتكبت في دير ياسين أو في صبرا وشاتيلا، دفع الشعب الفلسطيني خلالها الثمن الباهظ، وكانت مناورة ثقيلة جداً تحملها أهل القطاع الصامد، لتبقى المقاومة الفلسطينية عزيزة وباقية، فقدموا أبنائهم ونسائهم وممتلكاتهم ومأواهم فداءً لها، فما أعظم هذا الشعب ولله الحمد.

ولكن تساءل الكثير عن جدوى هذه الحرب، ولماذا فرضت علينا، فيما تساءل الآخرون عن هدف الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، وهل حققت إسرائيل أهدافها منه، لا سيما وأن الجميع يتحدث عن نفسه بأنه المنتصر، وأي انتصار لشعب غزة الذي قدم شهداء بالآلاف فيما قتلى العدو لا يتجاوزون عدد أصابع الأيدي ؟؟؟؟؟

فقد كان خروج سادة الإجرام الإسرائيلي مبكراً من خروج قادة حركة حماس في غزة أمام وسائل ليعلنوا الانتصار وتحقيق الأهداف المرجوة من الحرب على غزة، واسمحوا لي أن أعبر عن رفضي لمصطلح "الحرب"، فالحرب تطلق على مواجهة بين جيشين تقريباً يكون فيها نوع من التوازن فيما بينهما على الأقل في القدرات العسكرية ، فما حدث في غزة هو معركة غير متكافئة على غرار معركة الكرامة التي أعادت الكرامة للأمة العربية، حققته قوات منظمة التحرير الفلسطينية التي انتصرت على قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1968م عندما دخلت تلك القوات الأراضي الأردنية للقضاء على قوات منظمة التحرير الفلسطينية، ويمكن القول أن هناك انسجام في عدد الشهداء أمام عدد القتلى الإسرائيليين، كما أن الفلسطينيين حاولوا تحييد المدنيين خلال المعركة، أما اليوم فإسرائيل تقول أن معركة غزة كان تجربة إستعادت قوة الردع فيها، لأنها كانت حرب شوارع وهي صعبة بالمقاييس العسكرية، لا سيما وأن عدد قتلاهم فيها يقارن سقوطهم في مناورة تدريبية قد تجريها وإن كانت هناك زيادة طفيفة على العدد.

لذلك إسرائيل كانت تدرك معنى وأهمية العملية العسكرية على قطاع غزة لا سيما المرحلة الثانية منها والتي تقضي بالدخول البري والاقتحام والالتحام مع فصائل المقاومة الفلسطينية، وقد استثمرت هذا الجانب لقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين العزل، رغم أنني أعتبر الشعب الفلسطيني كله أعزل حتى مقاومته التي لا تملك إلا السلاح البسيط المتواضع للدفاع عن نفسها، أمام قوة ضخمة تعد الثانية في منطقة الشرق الأوسط والأولى في سلاحها الجوي.

وصحيح أن إطلاق الصواريخ لم يتوقف حتى بعد أن أعلنت إسرائيل وقف إطلاق النار من جانب واحد، فهذا في نظري ليس معيار لأن نحكم عليه ونسجله هزيمة، أو أن نقول أنها لم تجتاح قطاع غزة بالكامل، لأن من وقف على مشارف شارع الثلاثيني في غزة بإمكانه يدخل شارع عمر المختار أو الوحدة، وهي "فركة رجل" كما يقال بالمثل الشعبي لدبابة مدمرة ، ليأخذ الجندي الإسرائيلي صوراً أمام النصب التذكاري "الجندي المجهول" وخلفه ما تبقى من البرلمان الفلسطيني، لكن إسرائيل أكتفت بما حققته من مجازر ودمار لأنها تدرك كم أوقعت من عدد الشهداء الذي قد يصبح بالنسبة لها كابوساً يطاردها في المستقبل أمام المجتمع وشعوب العالم الحر الذي بات يدرك الفارق وحقيقة النازيون الجدد، وهنا تكمن أهمية الحملة الإعلامية ومدى نجاحها التي أفرزت واقع أمني جديد على خارطة المنطقة عرف "بالعابر للقارات".

فالمقاومة في غزة في نظري هي منتصرة وغير منتصرة :

منتصرة لأنها قاومت واستبسلت وواجهت كما تحدثنا عن قوة جبارة وعاتية وبشعة لا تعير أي اهتمام لحقوق الإنسانية وقد استخدمت كما شاهدنا كافة أنواع السلاح وأكثرها المحرمة دولياً وعلى رأسها "اليورانيوم و الفسفور الأبيض والدخان السام وغيرها" وقامت باستهداف الأطقم الطبية والصحفيين وقتلت الأجانب قبل أطفال ونساء وشيوخ غزة ودمرت المساجد والمراكز الطبية قبل المساكن الآمنة،كما تحدثت بعض العائلات التي نجت بأعجوبة من الموت المحقق وأنها كادت تعدم وهناك عائلات أعدمت أمام أعينهم ولم يتمكنوا من انتشال الجرحى وتركوا ينزفون على الأرض وتحت ركام المنازل المهدمة ،كما منع خلالها الصليب الأحمر وهيئات حقوق الإنسان من انتشالهم أو إسعافهم. لذلك انتصرت المقاومة لأنها قررت وقف إطلاق النار رغم أن التوقيت متأخر جداً لأن من يقرره هو الطرف الأقوى أي "إسرائيل"، لذلك إدارة المعركة كانت تحتاج إلى مقومات خاصة وبيئة مختلفة، والحديث كثير في هذا الجانب وحتى نرفع من معنويات شعبنا الفلسطيني، لن تترجم نتائج وأرباح المعركة بعكس ما يريد الشعب الفلسطيني رغم أن هناك طرق أقصر كانت متوفرة ويمكن الاستغناء عن هذا الاعتراك أو تأجيله لحين توفر أرضية حربية وسياسية محلية وإقليمية "أي جبهة داخلية وخارجية داعمة ومتحدة"

ولهذا نسأل هل كانت المعركة من أجل تحسين وضع إنساني كان متوفراً قبل سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عسكرياً في يونيو 2007م، أما أن المعركة أو المقاومة اندلعت من أجل تحرير الأرض والوطن ؟!

وبالعودة لمعرفة لماذا لم تنتصر وهنا أختلف مع الذين صنعوا من الانتحار نصراً سياسياً واستراتيجياً وبالغ في التضخيم، .. فالعدو الإسرائيلي الذي أرتكب مجزرة وقتل في حربه على قطاع غزة الآلاف كما أسلفنا وألحق الدمار الذي لم نسمع بها في التاريخ البشري القديم أو المعاصر من هول بشاعتها حتى في زمن التتار "المغول". ، لكن نريد أن نؤكد أن الفكر الإسرائيلي قائم على مفهوم واحد هو "أقتل ما استطعت من الفلسطينيين" لأنها يدركون تماماً أن هذا الفلسطيني يريد تحرير أرضه ولن يكف عن القتال من أجل التحرير، لذلك لا يفرقون بين مدني "طفل أو امرأة" فالطفل غداً سيصبح شاب وسيلتحق في صفوف رجال المقاومة وربما سيكون من الجيل الأكثر رفضاً لوجودهم على أرض فلسطين، أما تلك المرأة الفلسطينية فهي التي تنجب هؤلاء الأطفال بالتالي تقلب التوازن الديمغرافي وهي التي تغرس تلك الثقافة، كذلك الرجل أو الشيخ، لذلك يجب قتل الجميع دون استثناء، تلك هي ثقافة عدونا، الذي وضع عنواناً نصب عينيه في حربه على قطاع غزة والمشهد يروى لنا، بأن النية كانت ترمي إلى تكبيد قطاع غزة أكبر قدر من الخسائر وقتل أكبر عدد منهم ولا فارق بين طفل أو مقاتل، فالكل في نظرهم في دائرة الاستهداف، أما الخلل عند المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة فكانت بارزة تماماً عندما قدمت المبررات على طبق من فضة لعدو مجرم لا يرحم، تناغمت مع جغرافية تعج بكثافة سكانية وفي ظل معركة تدور رحاها وسط مدنيين عزل، وفي جغرافية منهكة اقتصادياً ونفسياً لا تملك المقومات الدفاعية أو الهجومية "ساقطة امنياً وسياسياً واقتصادياً و.." نتيجة الحصار الخانق وغيره، وهنا اسمحوا لي أن أستذكر رواية مضى عليها أربعون عاماً على الأقل عندما دار جدالاً بين أحد قائد مصري وقائداً في جيش منظمة التحرير قائلاً المصري للفلسطيني أبحثوا عن بديل أخر عن قذائف الهاون، فقال له الفلسطيني دلني عليه فقال له المصري انظر حولك ستجده، وإن عالم اليوم في تقدم.

نعم علينا أن نبحث عن الجديد، فقد أحدثنا توازن رعب في السابق عندما كانت تضرب تل أبيب وشوارع العفولة وحيفا وأدرنا المعركة في الداخل الإسرائيلي، وتمكننا من إحداث هجرة عكسية، تلك هي المعركة الجادة، فالرئيس عباس ولد من رحم المقاومة وترعرع وتربي بين صفوف رجالها "أبو عمار وأبو جهاد وأبو أياد و ...." ولن يكون يوماً ضد نصر المقاومة، ولكن المقاومة المنظمة الهادفة، حتى نحصد ثمارها ونحظى بالنصر المبين، تلك هي المعادلة التي يجب أن ندركها، حتى لا تكون نتائجها عكسية ويفرض علينا المزيد من الحصار والتجزئة والتصفية للقضية الفلسطينية، باختصار فن إدارة الأزمات وإدارة المعركة السياسية.

ليست هناك تعليقات: