الاثنين، يونيو 18، 2007

الصراع على السلطة ومطلـب الاحتـلال

الفضل شلق
السفير
كل شيء يبدأ بالسياسة وينتهي بها. والفرق بين بلدان ذات وجود حقيقي (استقلال، سيادة، إلخ...) وأخرى ذات استقلال فارغ المضمون هو بين نوعين من السياسة: سياسة تعتبر الواجب الأول إدارة شؤون المجتمع وبين سياسة أخرى تقتصر على الصراع على السلطة. السياسة من النوع الأول تبنى بها الدول رغم أنها لا تمنع ولا تتنافى مع الثانية. أما السياسة من النوع الثاني، فهي إذا تمّ الاكتفاء بها، تقود إلى انهيار الدول، أو إلى منع نشـوئها.
لبنان، فلسطين، العراق، سوريا، ساحة واحدة للصراع على السلطة. أوراق البلدان الثلاثة الأولى بيد النظام السوري. تشكّل البلدان الأربعة منظومة يمارس فيها النظام السوري سلطة وصاية مستمداً قوته من غول مخيف، قريب بعيد، يمتلك الاندفاعة المذهبية والإمكانية النووية، إيران. الخوف والتخويف ضروريان لكل انقسام طائفي، مذهبي، إثني. تختلف التسميات، لكن النتيجة واحدة، وهي أن تستطيع قيادة سياسية السيطرة على طائفتها، ومصادرتها عن طريق الخوف والتخويف من الطوائف الأخرى التي تشكل بعبعاً.
تصير الطائفية والمذهبية نمطاً من التفكير للحفاظ على الوجود؛ تقرّر الهوية الطائفية ما عداها من الهويات. مع مصادرة الهويات لمصلحة الهوية الأحادية يضمر الوعي. يتقلص الأفق، حيث لا ترى الرعية الطائفية ـ المذهبية سوى جزء من الصورة الإجمالية للمنطقة وللعالم وللكون.
والجيوش الجرارة للإمبراطورية الأميركية وإسرائيل، في المنطقة، تخرج من الصورة أو تؤثر على الوعي في اتجاه آخر. الجيوش الأميركية في العراق والخليج: 150 ألفاً جنوداً نظاميين، 100 ألف مرتزقة (شركة بلا كواتر الأمنية ومثيلاتها)، 100 ألف جنوداً بحريين على حاملات الطائرات في الخليج؛ هذا عدا الجنود التابعين لدول غربية أخرى. ماذا جاءت تفعل؟ ما هي مهمتها الحالية؟ لم يعد السؤال مطروحاً.
يغيب تحليل موازين القوى. تختفي التحليلات الجيو ـ بوليتيكية التي تعوّدنا عليها. ما عاد هذا النوع من الجيوش «الأجنبية» يمارس الاحتلال والوصاية والانتداب. بالطبع نسينا كل ما قرأناه عن الاستعمار والإمبريالية والإمبريالية الجديدة. ألم يتعولم العالم؟ النظام العالمي الجديد عنوانه حرية رأس المال في زمن ليبرالية جديدة تطلق العنان للمبادرة الفردية. والسوق الرأسمالية تحوي آليات توازن خفية. ولا خوف من الاحتلالات الاقتصادية. كل امرئ يمنح فرصة المبادرة. ومن لم يفلح لا يلومَنَّ إلا نفسه، حتى ولو انضم إلى جحافل الجياع المتزايدة أعدادهم في هذا العالم. النظام العالمي الجديد (القديم؟) هو نظام الحداثة والديموقراطية.
جيوشه هي التي تحقق حقوق الإنسان، وكل من يخرج عليه إرهابي. علينا أن نختار بين حقوق الإنسان وحق تقرير المصير. الأول عنوان للنظام العالمي، الثاني يعبّر عن لغة خشبية مُفَوَّتة قديمة؛ لغة الخمسينيات والستينيات مرفوضة. تُرفض هذه اللغة الأخيرة ليس بسبب الأخطاء فيها بل لأنها لم تحقق النتائج المرجوة. نبدأ من النتائج ونهمل الأسباب. بالأحرى، نضع النتائج قبل الأسباب. الأمر سيان؛ في خضم الصراع على السلطة، تتغيّر معايير العقل والوعي والالتزام. ينفصل التحرير عن الحرية. واكبنا التحرير (ولو بسخرية). أيّدناه بعد الانسحاب.
إسرائيل باقية لكن في أرض فلسطين، أي خارج الحدود اللبنانية. لم تعد عدوانية. القتال ضدها بعد التحرير بسنوات ليس قتالاً لدفع العدوان، بل هو خدمة للبعبع الطائفي والمذهبي الذي يتناقض مع حقوق الإنسان والديموقراطية ومتطلبات النظام العالمي الجديد. التحرير في مكان والحرية في مكان آخر. التحرير أدّى ما هو مطلوب منه. أما الحرية فهي تأتي مع جيوش الاحتلال «الأجنبية». الواقع أن تعبير «أجنبي» تغيّر معناه.
صار الأجنبي فينا. صار جزءاً منا. هذا هو الجزء المرفوض والمستنكر المناقض للحداثة وأسبابها. أما الأجنبي الآتي من وراء البحار فهو يحمل معنى الحداثة والديموقراطية وكل ما هو مرغوب مطلوب. يصير هو الحرية. يتغيّر المعنى، ينقلب العدو صديقاً. والصديق عدواً، حسب متطلبات الصراع على السلطة. أما الهوية فهي طوع البنان.
ومن يمتلك وسائل الخوف والتخويف يستطيع مصادرة الهوية وإضفاء معنى الجماعة على أي مطلب من مطالب السلطة. في خضم الصراع على السلطة، نستعين على الأجنبي الكامن فينا بالأجنبي البعيد. لا مانع من احتلال إضافي هنا وهناك. في الماضي برّر الاستعمار نفسه باعتبارات مهام التمدين والتحديث وحقوق الإنسان. انقلب الأمر، صار مطلب الحداثة والعدالة يبرّر الاحتلال. وما عاد الاحتلال يعتبر استعماراً. علينا الخروج من اللغة الخشبية إلى مناداة الضمير والوجدان. القلب والوجدان يطلبان العدالة.
لدينا جثث كثيرة محروقة، فجّرتها قنابل مدسوسة في الليل أو خفية من النهار. داخلنا معتم مظلم ـ يدعو إلى اليأس من أنفسنا. ما عدنا نذكر العروبة إلا في المناسبات السيئة. ويبقى السؤال: كيف نطلب العدالة من نظام عالمي لم يحقق العدالة في أي مكان آخر في العالم؟ يغيب عن الوعي السائد ما يربط بين الاحتلال والحرب الأهلية. يصير الاحتلال مطلباً لدرء الحرب الأهلية، على اعتبار أن الحرب الأهلية قدر مكروه. قدرنا الحرب الأهلية الناتجة عن عوامل الشر الكامنة فينا. هنا ننسى جبروت النظام العالمي الذي التجأنا إليه.
ننسى التدرّج من النظام العالمي إلى الصراع على السلطة إلى الحرب الأهلية. تصير الحرب الأهلية نتيجة طبيعية لتاريخنا المليء بالمآسي، وليست حصيلة تفاعلات النظام العالمي في مجتمعنا الذي يتم تدميره وتفكيكه بعد أن حُرِمت دوله من الشرعية. صوملة (نسبة للصومال)، عرقنة (نسبة للعراق)، فلسطنة (نسبة لفلسطين)، لبننة (نسبة للبنان)، ألا يبدو أن هناك بعض الفراغات في لوحة شطرنج الدمار العربي؟ ألا يُستكمل الدمار العربي الذي وُعدنا به بعد 11 أيلول؟ أسئلة لا يُراد الجواب عليها لدى من لا يبغي أو لا يستطيع تعاطي السياسة بمعناها الأسمى، ولدى من يريد الاقتصار في السياسة على الجزء المتعلق بالصراع على السلطة.

ليست هناك تعليقات: