الثلاثاء، يونيو 12، 2007

أميركا تُحاصر عراقها الإفريقي

نقولا ناصر

لا يمكن أن يكون الإعلان عن إنشاء "قيادة إفريقيا" (أفريكوم) الأميركية العسكرية الجديدة إلاٌ الإطار الإستراتيجي المنطقي لتفسير مُسلسل العُقوبات السياسية والاقتصادية التي تُهدٌد واشنطن بتصعيدها وتدويلها ضدٌ السودان بذريعة الأزمة الإنسانية المُتفاقمة في إقليم دارفور التي تُضخٌمها دون سند حدٌ وصفها ب"إبادة جماعية" تُحمٌل مسؤوليتها للحكومة السودانية حصرا وتُخلي ساحة المتمرٌدين منها وفي الوقت نفسه تتنصٌلُ هي من مسؤولية دعم وتحريض المتمرٌدين على تسعير أُوارها ، فقط لأن السودان ما زال يمثٌل عقبة رئيسيٌة لا نفوذ لواشنطن فيها أو عليها في قلب مسرح عمليات "أفريكوم" في الشمال العربي للقارٌة السوداء وفي العصب العربي للقرن الإفريقي على الجناح الجنوبي الغربي للقيادة المركزيٌة الأميركيٌة التي يمثٌل المشرق العربي قلب مسرح عمليٌاتها .

إن واشنطن التي وجدت في العراق مفتاح نجاح إستراتيجيتها التي تحميها "القيادة المركزية" في شمال المنطقة النفطية الحيوية لمصالحها في الخليج (العربي أو الفارسي لا فرق طالما لا تراه واشنطن ولا تريده غير أن يكون أميركيا) تمارس الآن ذات التكتيكات السياسية والعسكرية التي تشير إلى أنها وجدت في السودان عراقها الإفريقي الذي يمثٌل مفتاح نجاح إستراتيجيتها التي ستحميها أفريكوم في جنوب غرب المنطقة نفسها .

لذلك كان السودان مُستهدفا من الإدارات الأميركية المُتعاقبة فالرئيس "الديموقراطي" السابق بيل كلينتون أمر في سنة 1998 بالضربة الجوية التي زعم أنها دمٌرت مصنعا ل"الأسلحة الكيماوية" السودانية كانت واشنطن تعرف تماما أنه لم يكن كذلك . وفي الوقت الحاضر يُجمع الحزبان الديموقراطي المُعارض والجمهوري الحاكم على التدخٌل العسكري في السودان لأهداف امبريالية لكن بذرائع "إنسانية" أوضحها جان بريكمونت في كتابه "الإمبريالية الإنسانية" التي يدٌعي الغرب باسمها أنه مُلزم أخلاقيا بالتدخٌل العسكري لحماية الحقوق السياسية والمدنية لشعوب العالم كما حدث في يوغوسلافيا السابقة ويحدث الآن في العراق وأفغانستان وكما يُحضٌر حاليٌا للسودان وربما أيضا للبنان وإيران .

ويتٌضح "الإجماع" الأميركي في البيان الذي أصدره في الخامس من الشهر الجاري مُرشٌح للرئاسة عن الديموقراطيٌين العام المقبل ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ جوزيف بايدن الذي دعا إلى "إقامة منطقة للحظر الجوي بالقوٌة وفرض عقوبات دولية ... وإيجاد قوات لمهمة حفظ سلام وإذا اقتضت الضرورة إرسال قوات أميركية على الأرض" في دارفور وقد كرٌرت دعوته مُنافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون .

وفي مقابل الإجماع الأميركي نجد المواقف العربية المُتضاربة المُؤيٌدة أو المُعارضة أو المُوافقة بصمتها على أفريكوم ، دليلا على انهيار الحدٌ الأدنى للتضامُن العربي الذي ما زال افتقاده لرؤية إستراتيجية مُوحٌدة يحُول دون تطوير جامعة الدول العربية إلى نظام إقليمي فاعل قادر من ناحية على حماية أعضائه ومن ناحية أُخرى على منع إقامة أنظمة إقليمية مُعادية بديلة لا هدف لها سوى تعميق الفصل الاستراتيجي بين مغرب الوطن العربي وبين مشرقه من جهة والتآكل التدريجي للهوية العربية الإسلامية لهذا الوطن ، العصب الحيوي الرئيسي لوحدته ، باستيعابها ضمن منظومات شرق أوسطية أو متوسطيٌة أو إفريقية أوسع من جهة أُخرى .

في هذه الأثناء تتحرٌك واشنطن والمجتمع الدولي في مسارين متعارضين يتجه أوٌلهما نحو التصعيد العسكري والثاني نحو تسريع البحث عن السلام .

فالولايات المتحدة الأميركية حاليٌا تُسرٌع جهودها لإحكام الأطواق الدولية حول الحكومة السودانية بسبب أزمة دارفور تمهيدا لإضفاء شرعية الأمم المتحدة على العقوبات التي تفرضها إدارتها على السودان لكي تُحوٌل هذه العقوبات إلى حصار دولي لأسباب لا علاقة لها بالمجتمع الدولي ولا بنوعية النظام الحاكم في الخرطوم أو في غيرها لكن لها كلٌ العلاقة بخطط واشنطن الإستراتيجية للقارٌة الإفريقية ذات الصلة الوثيقة بإستراتيجيتها في الشرق الأوسط .

وأحدث مثال على استغلال واشنطن لأرفع الهيئات الدولية لخدمة إستراتيجيتها كان استثمارها لقمة الثُمانيٌة الصناعية في برلين بألمانيا الأسبوع الماضي عندما حثٌ الرئيس جورج دبليو. بوش نُظراءه على اتخاذ إجراءات أقوى ضد السودان ، وقد وجد في الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خير عون له ، إذ وجٌه هذا الأخير دعوة إلى عقد مؤتمر وزاري دولي حول دارفور في باريس يوم 25 حزيران / يونيو الجاري تُشارك فيه دول لها مصالح حيوية في السودان لكن لها أيضا تفسيرات مختلفة لأزمة دارفور ورؤية مُغايرة لحلٌ أزمتها مثل مصر وقطر والصين . وكان وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنر قد توجٌه السبت الماضي إلى تشاد حيث تحتفظ بلاده ب 1500 جندي ليزور مخيمات لاجئي دارفور قبل أن يلتقي الرئيس السوداني عمر البشير في الخرطوم الاثنين .

ولا يمكن إدراج الدعوة الفرنسية إلاٌ في إطار التحرك الأميركي حيث تتقاطع خطٌة واشنطن لإنشاء "قيادة إفريقيا" العسكرية – السياسية مع رؤية ساركوزي لإنشاء شراكة أوروبية – إفريقية متوسطية عسكرية واقتصادية لمكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية والتنمية . أمٌا الدعوة الفرنسية لمشاركة مصر وقطر والصين في مؤتمر باريس فتهدف إلى تحييد معارضتها للرؤية الأميركية – الفرنسية – البريطانية لأزمة دارفور واحتواء هذه المعارضة بتحويلها إلى صوت أقليٌة في مؤتمر دولي أميركي - القيادة لا يمكنه إلاٌ أن يكتسب شرعية أكثر مصداقية من المشاركة المصرية والقطريٌة والصينية فيه حتى لو كان لهذه المشاركة صوت مُعارض لقراراته وتوصياته المُتوقٌعة سلفا .

ومن المُقرٌر في إطار التحرك الأميركي ألمُتسارع أن يقوم وفد من مجلس الأمن الدولي بلقاء الرئيس السوداني عمر البشير في الخرطوم في 17 الجاري ومن المُقرر كذلك أن يلتقي ممثلون للأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي والحكومة السودانية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا ، مقر الإتحاد الإفريقي ، هذا الأسبوع والهدف المُعلن للٌقائين واحد وهو إقناع الحكومة السودانية بالموافقة على نشر قوة مشتركة من الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي في دارفور ، تطبيقا لقرار مجلس الأمن رقم 1706 الصادر في 31 آب / أغسطس 2006 ، مهمٌتها الاسمية "حفظ السلام" لكن الخرطوم ترفُضها كقوة ذات مهمٌة عسكرية تنتهك سيادة السودان وتستشهد على ذلك بتكليفها فرض منطقة للحظر الجوي فوق إقليم دارفور يُجمٌد سيادة الحكم المركزي عليه ويحوٌله إلى مثيل لمنطقة الحظر الجوي التي فرضتها واشنطن على شمال العراق منذ عام 1991 لتتحوٌل بعد ذلك إلى قاعدة ضدٌ الحكم المركزي في بغداد استُخدمت في سنة 2003 لغزو العراق ثمٌ احتلاله .

إن الإتحاد الإفريقي بخاصٌة والدبلوماسية الدولية بعامٌة ما تزال مُتمسٌكة بعدم تغيير الحدود السياسية التي ورثتها القارٌة السوداء من عهود الاستعمار الأوروبي وهي حذرة من حركات التمرد التي تنطوي على مخاطر انفصالية وقد أكٌد ذلك دنيس دلومو السكرتير التنفيذي للجنة الأجهزة الأمنية في إفريقيا "السيسا" التي اختتمت يومين من الاجتماعات في الخرطوم الخميس الماضي بالتوافق على ما قال دلومو إنه أحد أهم البنود في وثيقة التأسيس وهو الاعتراف بشرعية الأنظمة الحاكمة والمُنتخبة في إفريقيا ، في تعارض مباشر مع الدعم الأميركي لكل حركات التمرٌد السودانية ذات النزعات أو الأهداف الانفصالية المُعلنة أو المُستترة والتي نجحت حكومة البشير في نزع فتيلها الواحدة تلو الأخرى بالرغم من الأثمان البشرية والاقتصادية الفادحة التي نجمت عنها وهي على الأرجح ستنجح أيضا في تخطٌي أزمة دارفور .

وواشنطن ، المُدركة تماما لإصرار الخرطوم على رفضها وعلى تمسٌُكها بسيادتها ، لم تترك مجالا للشكٌ في أن لقائي الخرطوم وأديس أبابا ليسا إلاٌ تكتيكا دبلوماسيا لإقناع المجتمع الدولي بأن واشنطن قد استنفذت كل الوسائل الدبلوماسية قبل أن تلجأ إلى مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يُلزم الحكومة السودانية قهرا بقبول ما لم تقبل به طوعا ، وربما تنجح في إسناد هذا القرار إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لتخويل واشنطن فرض القرار بالقوة العسكرية لتبرير تدخٌلها في السودان ويوم الخميس الماضي وجٌه المندوب الأميركي في مجلس الأمن سلمان خليل زاد ، سفير واشنطن السابق في بغداد ، تحذيرا إلى الخرطوم بأنه "يجب عليها أن تقبل بسرعة" بالقوٌة الإفريقية الأممية المشتركة وبمنطقة الحظر الجوي وإلاٌ ستُواجه عقوبات من الأمم المتحدة بموجب قرار تشترك في إعداد مشروعه أميركا وبريطانيا وفرنسا وتستعدٌ لتقديمه إلى مجلس الأمن . وكان بوش قد هدٌد تكرارا ، مثلما فعل في السابع من الشهر الماضي ، بالعمل في دارفور بمعزل عن الأمم المتحدٌة إذا لم تتحرٌك الهيئة الدولية .

غير أن المجتمع الدولي ما زال يرفض استخدام القوة المُسلٌحة لحلٌ الأزمة ، لأنه "لا يوجد حلٌ عسكري للصراع في دارفور" كما قالت قمة الثمانية الصناعية في بيانها يوم الجمعة الماضي وتتفق معها في ذلك روسيا والصين وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وحركة عدم ألانحياز والإتحاد الإفريقي ، لكن بوش مع ذلك نجح في انتزاع نداء من قادة الثُمانية يحثٌ السودان ومُتمردي دارفور معا على قبول "بعثة السلام الدولية" لحلٌ "الأزمة الإنسانية" في الإقليم وإلا فإنهم سوف يؤيدون اتخاذ "إجراء مناسب في مجلس الأمن" الدولي كما جاء في بيانهم . وكانت "خريطة طريق نحو السلام" من ثلاثة مراحل خلال الشهور المقبلة عرضها المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى دارفور جان إلياسون على مجلس الأمن الدولي نهاية الأسبوع الماضي ، كما قال في مؤتمر صحفي في نيويورك السبت ، هي آخر دليل على تعارض المسار الأميركي الذي يُصعٌد نحو التدخٌل العسكري مع مسار المجتمع الدولي الباحث عن السلام .

"أزمة إنسانيٌة" أم "إبادة جماعيٌة" !

ومن الواضح أن لُغة بيان الثُمانيٌة ولهجته اختلفتا عن لهجة الوعيد والتهديد الأميركية ولُغتها العسكرية ولفت النظر أيضا الاختلاف في المُصطلحات المُستخدمة لتوصيف الأزمة إذ استخدم البيان عبارة "الأزمة الإنسانية" لوصف ما يحدث في دارفور وخلا من مصطلحات "الإبادة الجماعية" و"الجرائم ضد الإنسانية" و "التطهير العرقي" التي يردٌدها بوش وأركان إدارته . وكان الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان ووزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول إثر زيارتيهما لدارفور قد قالا إن هناك "كارثة إنسانية" في الإقليم لكن ليس هناك دليل كاف لوصفها ب"الإبادة الجماعية" وهو الوصف الذي ترفضه أيضا الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والعديد من هيئات الإغاثة العاملة في الإقليم .

إن جوقة الدعاية الإسرائيلية التي تحثٌ واشنطن على التدخٌل العسكري في السودان وتروٌج لها المُسوٌغات لذلك وشبكة المنظمات "الإنسانيٌة" التي يتصدٌرها في إسرائيل تومي لبيد رئيس مجلس إدارة "هيئة ذكرى شهداء وأبطال الهولوكوست" وفي أميركا منظمتا "الخدمات العالمية الأميركية-اليهوديٌة" و "متحف ذكرى الهولوكوست الأميركي" تسوٌغ الاتٌهام الذي وجٌهه وزير الخارجية السوداني لإسرائيل بتغذية التمرٌد في دارفور لكنها لا تسوٌغ بقاء أكثر من 300 لاجئ "إنساني" دارفوري في السجون الإسرائيلية حتٌى الآن لفترة مكٌنتهم من تعلم اللغة العبرية لبثٌ شكواهم بها لوسائل الإعلام المحليٌة .

صحيح أن هناك "أزمة إنسانية" وانتهاكات مروٌعة لحقوق الإنسان منها جرائم حرب فرديٌة وسفك دماء قادت جميعها إلى تشريد مئات الآلاف من اللاجئين في الإقليم السوداني المنكوب ، لكن كما أوضح نداء الثُمانيٌة الصناعية فإن المُتمرٌدين المُتشجٌعين بالتحريض الأميركي يتحمٌلون مسؤولية عن ذلك أيضا ، غير أن المبالغة الأميركية حدٌ اتهام الخرطوم بالإبادة الجماعية له هدف لا يمكن الخطأ فيه ، إذ طبقا لميثاق الأمم المتحدة فإن تقرير وجود مثل هذه الإبادة في بلد ما يقتضي التدخٌل المُسلٌح .

والمُبالغة الأميركية لا تقتصر على تضخيم الويلات الإنسانية للحرب وعلى تحميل الخرطوم وحدها المسؤولية عنها بل "تُعمٌمُ" أيضا لتُضلٌل الرأي العام العالمي بالقول إن النزاع عرقيٌ بين العرب والأفارقة مُتجاهلة حقيقة أن حركة التمرٌد "الإفريقية" الرئيسية بقيادة ميني أركو ميناوي كانت الطرف الآخر المُوقٌٌٌع على اتفاق سلام دارفور مع الحكومة السودانية في أبوجا يوم 5 أيار / مايو 2006 ، كما تُعمٌم النزاع المحصور في ثلاث وحدات إدارية لتدٌعي شُموله ما يزيد على خمسين وحدة ينتظم فيها الإقليم . والجدير بالذكر أن هذا النزاع مُتكرر بين القبائل على اختلاف أعراقها في الإقليم الذي تُقدٌر مساحته بخُمس مساحة السودان لكن واشنطن استغلٌت اندلاعه هذه المرة لخدمة مُخطٌطاتها الإقليمية ، ففي سنة 1989 قاد نزاع عنيف بين الفور وبين العرب إلى مُصالحة في الفاشر عاصمة الإقليم وفي عام 2001 أنهت اتفاقية سلام نزاعا آخر بين العرب والمساليت الموزعين بين دارفور وبين تشاد .

لقد أصاب اندلاع التمرٌد في إقليم دارفور في شباط / فبراير 2003 السودانيين بالصدمة لأنه أولا تزامن مع انتهاء الحرب الأهلية في الجنوب ولم يُمهلهم فرصة لتنفس الصُعداء والتقاط الأنفاس للبناء على السلام الذي تحقق ولأنه ثانيا هدٌد بتغليب العصبية القبلية الجاهلية بنفخ الأميركيين في رمادها على التآخي الإسلامي بين القبائل العربية والإفريقية في إقليم كان بوٌابة رئيسية لنشر الدين الحنيف بالدعوة السلمية لا بالفتح في القارٌة السوداء ، هذا الإقليم الذي أخذ اسمه من قبيلة "فور" المسلمة الإفريقية لا العربية .

"عسكرة" سياسة واشنطن الإفريقية

كما تزامنت الأزمة الاقتصادية في الإقليم مع "عسكرة" السياسة الخارجية الأميركية في إفريقيا وتوحيد القيادات العسكرية المتعددة المشرفة عليها حاليا بإنشاء "قيادة إفريقيا" (أفريكوم) التي أُُعلن عنها في شباط / فبراير الماضي كأحدث القيادات العسكرية الأميركية ، لتُطلق في الأول من الشهر الجاري من مقرها المؤقت في شتوتغارت بألمانيا موقعا لها على شبكة الإنترنت . وسوف تبدأ أفريكوم عملياتها جزئيا في تشرين الأول / أكتوبر المقبل بإشراف القيادة الأوروبية حتٌى تستقلٌ لتباشر مهمٌات عمليٌاتية كاملة في الشهر نفسه بعد انتهاء السنة المالية الأميركية لعام 2008 .

والسودان في الوقت الحاضر يقع في مسرح عمليات القيادة المركزية الأميركية وهو أيضا ضمن عمليات القوة المشتركة في جيبوتي ، بينما تتبع تشاد المُجاورة للقيادة الأوروبية التي كان مسرح عمليٌاتها يشمل كل البرٌ الإفريقي باستثناء مصر والسودان وإريتريا والصومال وجيبوتي وإثيوبيا وكينيا وهذه جميعها واقعة الآن في مسرح عمليٌات "القيادة المركزية" واللافت للنظر أن مصر ستظل ضمن عمليٌات هذه القيادة وقد استثنتها واشنطن من تفويض أفريكوم . أمٌا الجُزر الإفريقية في المحيط الهندي قبالة سواحل القارٌة مثل مدغشقر وسيشل فتقع في مسرح عمليٌات "قيادة الباسيفيكي (الهادئ)" . أمٌا الآن فسوف تُوحٌد أفريكوم كل العمليٌات العسكرية في القارٌة باستثناء مصر ومُحيطها من الجُزر .

ومن المعروف أن لواشنطن تسهيلات عسكرية واسعة ممنوحة للبنتاغون في القارٌة وتنسيق استخباراتي مُتٌسع بحجة مكافحة الإرهاب ومراكز استخبارات عسكرية "ثابتة" ضمن أسوار سفاراتها أو خارج هذه الأسوار ويشمل ذلك دولا عربية هامة من أقصى المغرب العربي إلى أقصاه . ومنذ تشرين الأول / أُكتوبر 2002 تتٌخذُ "قوة المهمات المشتركة الموحدة للقرن الإفريقي" من معسكر ليمونير في جيبوتي قاعدة لها ومن هذه القاعدة يُقدٌم المستشارون العسكريون الأميركيون "استشاراتهم ومعوناتهم" لبعثة الإتحاد الإفريقي في السودان . ويشمل نطاق عمليات هذه القاعدة عشر دول قام قائد القوة الأدميرال جيمس هارت بزيارتها جميعها باستثناء السودان وإريتريا والصومال .

لكن واشنطن لم تعُد تكتفي بكل ذلك ، بل تريد من الأفارقة استضافة مقر لقيادة أفريكوم وتريد قواعد عسكرية والهدف الأول مُعلن أما الثاني الخاص بالقواعد فإن ما رشح عنه لوسائل الإعلام ما يزال بحاجة إلى تأكيد ، لكن بالرغم من هذا التحفظ فإن من المؤكد أن أيٌ مقرٌ لقيادة أفريكوم لن يكون سوى "قاعدة" عسكرية أميركية كبرى . وبينما عرضت المغرب استضافة هذه القيادة وعرضت ليسوتو استعدادا مماثلا فإن الجزائر وليبيا وجنوب إفريقيا تتصدٌر معارضة إفريقية واسعة لها ، طبقا لتقرير "خدمات أبحاث الكونغرس" الشهر الماضي . وفي إطار "الصداقة" الفرنسية التي أعلن الرئيس ساركوزي أن واشنطن يمكنها "الاعتماد" عليها بدأ يبرز اسم تشاد حيث لفرنسا نفوذ تاريخي -- على الحدود الغربية للسودان وعلى تماسٌ مُباشر مع إقليم دارفور وأزمته -- كمُرشٌحة لاستضافة القيادة الجديدة التي ستكون رديفا لل"قيادة المركزية" للشرق الأوسط المكلفة بالحماية العسكرية ل"المصالح الحيوية" الأميركية في المنطقة العربية .

والبُعد "التنموي" الذي تحاول واشنطن منحه لأفريكوم -- في خطوة غير تقليدية ولا معهودة في القيادات العسكرية العالمية الأخرى -- يتٌضح من إشراك وزارات الخارجية والزراعة والتجارة والصحة ووكالات مثل ال"يوأس إيد" في قيادتها ، غير أن هذا البُعد لا يزيد على كونه "فاتحا لشهية" الأفارقة للقبول بشراء تلك المشاريع ، في انسجام كامل مع السياسات الغربية بعامة لبيع الدول أو المناطق المُستهدفة مشاريع عسكرية أو سياسية إستراتيجية برشوتها بمعونات مشروطة أصبح "المانحون" مهرة في توجيهها نحو الحاجات الماسٌة لل"ممنوحين" . وربما تكون الأزمة المالية الخانقة التي ترتهن حاليا سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية ل"كرم" أولئك المانحين خير مثال على هذه السياسة التي كان أحدث مثال لها هو "تعهٌد" قمة الثُمانيٌة الصناعية الأخيرة ب 60 مليار دولار لإفريقيا عشية إطلاق مشاريع أميركية وفرنسية مماثلة .

إن الأهداف الاقتصادية الإستراتيجية الأميركية في القارٌة السوداء التي تقتضي توفير مثل هذه الحماية العسكرية لم تعد خافية على القادة الأفارقة . فالقارة تمتلك 99% من الكروم في العالم و85% من البلاتين و70% من التنتلايت و68% من الكوبالت و54% من الذهب وفيها احتياطيٌات هامة من الغاز والنفط ومخزون كبير من الألماس وصخور الألمنيوم والأخشاب وأرض زراعية شاسعة لم تُسٌتغل بعد . وبالمقارنة مع عام 2004 سجٌل نمٌو الاستثمار الخارجي المباشر في القارٌة زيادة بنسبة 78% ليبلغ 38.8 مليار دولار أميركي عام 2006 ، أكثر من 50% منها استثمارات نفطيٌة . وعدا عن موقع السودان الإستراتيجي كمفترق طرق بين البحر الأحمر والقرن الإفريقي وإفريقيا الوسطى والمغرب العربي لتأمين الوصول إلى هذه الثروات فإن له أهمية في حدٌ ذاته نظرا لمخزونه الخاص من النفط واليورانيوم ناهيك عن إمكانيٌاته الزراعية الضخمة .

فهل من المُستغرب في ضوء ما تقدٌم أن يتمٌ تعيين السفيرة سيندي كورفيل كأوٌل مبعوثة متفرغة للولايات المتحدة لدى الإتحاد الإفريقي منذ حوالي أربع سنوات لتصبح في كانون الأول / ديسمبر الماضي أوٌل دبلوماسي غير إفريقي مُعتمد لدى المنظمة التي تضم 53 دولة عضو في مقرٌها بأديس أبابا ؟

لقد أعقب إنشاء القيادة المركزية عام 1983 نشوب ثلاثة حروب في مسرح عمليٌاتها الملتهب حتى الآن خصوصا في العراق وأفغانستان ، وليس هناك ما يضمن أن يكون إنشاء أفريكوم نذيرا بشؤم أقل في ضوء احتلال الصومال والتصعيد الأميركي ضد السودان والتضخيم الأميركي المريب لدور"القاعدة" في مسرح عمليات القيادة الجديدة .

*كاتب عربي من فلسطين .
nicolanasser@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: