الاثنين، نوفمبر 23، 2009

دور ينتظر الأردن في واشنطن

نقولا ناصر

(إن الدور الأردني الحيوي في الاستراتيجية الأميركية لا يتناسب لا ماليا ولا سياسيا مع التقدير الأميركي له)

إن تراجع الإدارة الأميركية -- أمام ما وصفه وزير الخارجية الأردني ناصر جودة ب"التعنت" الإسرائيلي لحكومة بنيامين نتنياهو -- عن مطالبة الرئيس باراك أوباما في أوائل عهده ب"تجميد كامل" للاستيطان اليهودي في الضفة الغربية المحتلة لنهر الأردن، ثم تهديد إدارة أوباما باستخدام حق النقض "الفيتو" لإجهاض مشروع قرار عربي – فلسطيني في مجلس الأمن الدولي يرسم "حدود" الرابع من حزيران / يونيو 1967 كمرجعية جغرافية ل"حل الدولتين" للصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين، مما قاد إلى الوضع الراهن الذي يهدد بإنهاء ما يزيد على عشرين سنة من "عملية السلام"، هو تراجع يذكر بوضع مماثل نشأ عن انحياز مماثل لإدارة الرئيس السابق جورج بوش إلى حكومة رئيس وزراء دولة الاحتلال الغائب عن الوعي آرييل شارون عام 2004 عندما بعث بوش إليه برسالته المشهورة في الرابع عشر من نيسان / أبريل من ذلك العام والتي تعهدت فيها إدارة بوش بدعم معظم الشروط الأربعة عشرة التي أرفقتها حكومة شارون بموافقتها على "خريطة الطرق".



وقاد تعهد بوش ذاك إلى تهديد مماثل للتهديد الذي تواجهه "عملية السلام" اليوم، ولم يخرج هذه العملية من مأزقها آنذاك سوى دور أردني حاسم قاده الملك عبد الله الثاني، عندما أجل لقاء قمة له مع بوش في الشهر الرابع من تلك السنة إلى شهر أيار / مايو التالي، حيث طلب الأردن توضيحات من إدارة بوش حول موقفها من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي قبل أو أثناء انعقاد القمة، وقال وزير الخارجية الأردني آنذاك مروان المعشر إن الأردن أصر على تطمينات "خطية" من بوش توازن تعهداته الخطية في رسالته إلى شارون، وكانت تلك تعهدات بتت مسبقا بقضايا كان الاتفاق حسب الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال برعاية أميركية أن يتم البت فيها بالاتفاق عبر التفاوض على قضايا الوضع النهائي، وقد أجحفت بالموقف الفلسطيني وكانت خروجا على مرجعيات مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 لمبادلة الأرض بالسلام.



وقد كان للملك عبد الله الثاني والأردن ما أرادوا، وكتب بوش للملك رسالة بتاريخ السادس من أيار / مايو تعهد فيها قائلا: "أنا أظل ملتزما كما كنت دائما برؤيتي في 24 حزيران / يونيو 2002 لحل دولتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمن، وبإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، ومتواصلة جغرافيا، وذات سيادة ومستقلة. وأنا ملتزم بأن أجعلها واقعا". وكان هذا الدور الأردني الحاسم مخرجا من الطريق المسدود قاد إلى نجاح مؤتمر قمة جامعة الدول العربية التالي.



لكن تطور الأحداث اللاحق خلال السنوات الخمس الماضية أثبت أن رئيس وزراء الأردن آنذاك طاهر المصري كان محقا عندما حذر من المبالغة في الثقة في الوعود الأميركية بقوله: "نحن نظل غير متأكدين كيف سيتم تنفيذها"، مضيفا: "هل سيظل موقف الولايات المتحدة هو نفسه كما كان أمام جلالته"؟



إن الوضع الراهن لعملية السلام الناجم عن انحياز إدارة أوباما للموقف الإسرائيلي يؤهل الأردن لدور مستحق يكون حاسما كما كان عام 2004، فالسيناريو نفسه يتكرر بحذافيره تقريبا، ربما باستثناء اختلاف الأسماء فقط، لكن بفارق واحد مؤكد هو غياب أي دور أردني اليوم يكون حاسما كما كان قبل خمس سنوات.



وربما من أجل استبعاد أي دور أردني كهذا يمكنه أن يخرق ويربك الانفراد الأميركي – الإسرائيلي بالمفاوض الفلسطيني لانتزاع تنازلات جديدة منه تتفق مع الشروط الجديدة التي أضافها نتنياهو لاستئناف المفاوضات معه -- مثل الاعتراف أولا ب"يهودية" دولة الاحتلال وغير ذلك -- والتي تذكر بشروط حكومة شارون التي تراجع أمامها بوش كما تراجع أوباما أمام شروط حكومة نتنياهو، استثنت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون العاصمة الأردنية من جولتها الأخيرة في المنطقة، مع أن المحطة الأردنية لا تقل أهمية عن المحطة المصرية في تفاعلها الجدلي مع الصراع الدائر في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، لا بل إن المحطة الأردنية أكثر أهمية كون الطريق المسدود الذي وصلت عملية السلام إليه ناجم عن "التعنت" الإسرائيلي، كما قال جودة، الذي قاد إلى الخلاف بين شريكي السلام الفلسطيني والإسرائيلي في الضفة الغربية بكل ما لها من صلات وثيقة بالمملكة وأمنها ومصالحها المعلنة في القدس بخاصة، وليس ناجما عن وجود حركة حماس في قطاع غزة المحاصر.



لا يتوقع أحد أن تكون الشراكة الأميركية الأردنية متكافئة بين قوة عظمى تكاد تكون منفردة بصنع القرار الدولي وبين دولة صغيرة تقع فوق بركان إقليمي متعدد الفوهات مثل الأردن، غير أن أي مراقب منصف للدور الهام الذي تقوم المملكة به في خدمة هذه الشراكة يتوقع من الشريك الأميركي أن يكون أقل إجحافا بحقوق هذه الشراكة وأكثر عدلا في الاستجابة لمتطلبات الشريك الأردني فيها، فعلى سبيل المثال لا يقل الدور الأردني أهمية عن الدور الإسرائيلي في تعزيز استراتيجية "السلام الأميركي" في المنطقة ومع ذلك فإن ما يزيد على الملياري دولار التي قدمتها واشنطن للملكة كمعونات اقتصادية، وربما مثلها كمعونات غير اقتصادية، طوال مدة هذه الشراكة الممتدة منذ عام 1952 يعتبر فتاتا إذا ما قورن بترليونات المعونات الأميركية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، ناهيك عن الشروط السياسية المرتبطة بهذه المعونات.



صحيح أن الشراكة الأردنية – الأميركية قد تعززن وتعمقت جذورها وتعددت أوجه التعاون الثنائي فيها. وكانت مصادقة مجلس النواب في الكونغرس الأميركي مؤخرا وبالإجماع على قرار يشيد بمتانة هذه العلاقات بمناسبة مرور ستين عاما على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ومرور عشر سنوات على تولي الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية، وكذلك الإعلان في الأول من نيسان / أبريل الماضي عن دخول المملكة شريكا كاملا في حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي تقوده الولايات المتحدة، هما أحدث دليلين على الثقة الأميركية في هذه الشراكة، غير أن ما أكده رئيس الوزراء الأردني نادر الذهبي خلال كلمته أمام الوفد الزائر للجنة الشؤون العامة الأميركية – الإسرائيلية "ايباك" بأن العلاقات الثنائية تعتبر "نموذجا للتفاهم بين الدول" ليس دقيقا، وبخاصة في مجال "التفاهم" السياسي.



فعلى سبيل المثال لم يكن ما قاله سفير المملكة في واشنطن الأمير زيد رعد زيد الحسين لمحرري الواشنطن تايمز إبان أحداث المسجد الأقصى الأخيرة بأن الإدارة الأميركية لا تقدر تقديرا كاملا القنبلة الموقوتة التي تمثلها اعتداءات المتطرفين اليهود على الحرم القدسي الشريف وبأن "شيئا ما لا يعمل بشكل سليم" في واشنطن هو دليل "تفاهم" سياسي أردني – أميركي على سياسة دولة الاحتلال الإسرائيلي في بيت المقدس. ولا كان دليل تفاهم كهذا "رفض" الملك عبد الله الثاني لأي إجراء عسكري ضد إيران، ولا دعوته "المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل" للتوقف عن إجراءاتها أحادية الجانب في الأراضي الفلسطينية المحتلة بينما ترفض واشنطن ممارسة أي ضغط على دولة الاحتلال من أجل الاستجابة لاستحقاقات "عملية السلام"، ناهيك عن رضوخها للضغط المعاكس من إسرائيل، ولا تحذيره بعيد "مديح" هيلاري كلينتون لنتنياهو من أن "المنطقة والعالم يواجهان لحظة الحسم" بالنسبة للسلام في المنطقة ومن أن "البقاء في الوضع الراهن غير مقبول" بينما النتيجة الوحيدة لتردد واشنطن وانحيازها لموقف دولة الاحتلال من شروط استئناف محادثات السلام هي إطالة أمد هذا الوضع الراهن على وجه التحديد.



وعلى سبيل المثال، لقد خاطر الأردن بعدم الحياد بين طرفي الانقسام الفلسطيني الراهن لأنه منحاز إلى السلام وعمليته والقوى الداعية إليه فلسطينيا وعربيا ودوليا، وانسجاما مع هذا الموقف فتح أبوابه لتدريب قوى الأمن الفلسطينية كجزء من عملية السلام ومن أجل تعزيزها، متحملا في هذا السياق اتهامات الطرف الفلسطيني الآخر له بالاصطفاف غير المباشر ضده، لكن استمراره في هذه المساهمة بينما لم تعد هناك أي عملية سلام سواء كانت أو لم تكن لها مصداقية يضعه في موقف سياسي محرج يصعب فيه الدفاع السياسي عن هذه المساهمة في غياب أي عملية سلام.



إن عدم أخذ الشريك الأميركي بمشورة شريكه الأردني في الشؤون الإقليمية قد حول الشريك الأصغر في هذه الشراكة غير المتكافئة إلى مجرد "اسفنجة" لامتصاص مضاعفات الأخطاء الفادحة للشريك الأكبر في المنطقة، فمئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين في المملكة هم دليل دامغ على الثمن الباهظ الذي يدفعه الشريك الأردني من إمكاناته الاقتصادية الشحيحة وأمنه نتيجة لتجاهل شريكه الأكبر لنصائحه السياسية حول شؤون المنطقة وبالتالي لاحتواء خطايا السياسة الخارجية الأميركية الإقليمية وأخطائها.



فعندما يقول مثلا رئيس الحرس الوطني الأميركي الجنرال كريغ ماكنلي أثناء زيارة له للأردن في تشرين الأول / أكتوبر الماضي إن المملكة أصبحت محور الجهود الرامية إلى خلق "منطقة قيادة مركزية يسودها السلام"، أو يشهد مثلا القائد العسكري الأميركي المسؤول عن المنطقة الجنرال ديفيد بيترايوس للجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ في الكونغرس في نيسان / أبريل الماضي بأن "الأردن يستمر في كونه شريكا رئيسيا يلعب دورا إيجابيا في المنطقة"، فإن التفهم الأميركي للتعبير عن التقدير لهذا الدور ما زال مجحفا به وقاصرا عن مجاراته بما يستحقه من الناحية السياسية، فهذا الدور يقتضي أن يكون الصوت الأردني مسموعا بشكل أفضل في دوائر صنع القرار الأميركي صعودا إلى البيت الأبيض.



وعندما يراجع المراقب أهمية دور الحليف الأردني للولايات المتحدة واستراتيجيتها في حفظ السلام، ليس إقليميا فقط بل وعالميا أيضا، من هاواي غربا إلى تيمور الشرقية شرقا مرورا بأفغانستان وكرواتيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو وسيراليون، ثم يراجع حصة الأردن الضئيلة في ميزانية المعونات الخارجية الأميركية للمنطقة بالمقارنة مثلا مع الثلاثين مليار دولار أميركي قيمة المعونة "العسكرية" فقط التي خصصتها إدارة بوش السابقة عام 2007 لدولة الاحتلال الإسرائيلي حتى نهاية عام 2017، فإن هذا المراقب لا يسعه إلا الاستنتاج بأن الدور الأردني الحيوي في الاستراتيجية الأميركية لا يتناسب لا ماليا ولا سياسيا مع التقدير الأميركي له، وبالكاد يساهم في أمنه وسط ما سماه المحلل معين رباني ب"الفشلين الأميركيين" في العراق شرقا وفلسطين غربا.



* كاتب عربي من فلسطين

* nicolanasser@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: