الخميس، نوفمبر 19، 2009

ذكريات.. العمر اللي فات: اولا في مصر 7

انطوني ولسن

(ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، انزل فيها من قطار الحاضر محاولاً الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. اثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا او من هناك، اربطها بحكاية اخرى او حكايات، ان اقتضي الامر العودة الى قطار الحاضر. سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوماً.. ذكريات العمر اللي فات).

دعونا الآن نكمل الحكاية..

... ذهبت الى أركان الحرب وطلبت منه ضرورة مقابلة المدير قبل ان اوقع بالعلم على قرار نقلي، سُمح لي بذلك.

سألت المدير عن سبب نقلي.. هل هو تقصير مني في عملي؟ أم هو تأديب لي؟ وقف هاشا باشا وهو يقول لي لا هذا ولا ذاك. الامر في منتهى البساطة، مكتب بطاقات مركز قنا في حالة يرثى لها من الفوضى، وليس عندي افضل منك لتنظيم العمل، بعدها ستعود الى مكانك بيننا في المصلحة. خذ ما تريد من ايام لاعداد نفسك للسفر، ولن تحسب عليك لا من الاجازات العارضة ولا السنوية ولا المرضية. المهم ان تسافر وتصلح لي مكتب قنا وتعود. سألته ايضاً ألم يكن من الممكن ان ترسلني منتدبا عن المصلحة لمدة 3 شهور اعرف فيها انني عائد بعد انتهاء المدة المحددة واتقاضى اجرا اضافيا لذلك. زد على ذلك كما تعلم سيادتك انني ملتحق بمدرسة الخدمة الاجتماعية والدراسة فيها مسائية وتحسب للطلبة نسبة حضور وغياب.

اجابني وهو يبتسم.. بشرفي بعد ثلاثة شهور ستعود الينا والى مكتبك وعملك بالمصلحة.

مضت اكثر من ثلاث سنوات وانا في قنا. وتم رفدي من مدرسة الخدمة الاجتماعية لعدم الحضور.. وتحطم حلمي الذي ضحيت من اجله بكلية الحقوق جامعة القاهرة.

على الرغم من الحياة الجديدة التي عشتها في قنا والتجارب والخبرات التي تعلمتها. إلا ان القاهرة هي القاهرة.. والفضل يرجع الى وكيل عام المصلحة اللواء محمود أنور حبيب الذي منح احد الموظفين الجدد والمعينين بعقد غير مثبت بالوزارة، اقول منحه الدرجة التاسعة بعد ان قدم طلبا للعمل بقنا بدلا مني. لولاه ما كنت رأيت القاهرة إلا اذا قدمت استقالتي. على الرغم ان كل مرة كان يراني سيادة المدير يقسم لي بشرفه ان اسمي سيكون على قائمة حركة التنقلات التي ستصدر قريبا.

يتغير مجرى حياة الانسان بجرة قلم يخطها رئيسه، تنقلب الامور رأسا على عقب وتؤثر في حياة الموظف البسيط الذي لاحول له ولا قوة اذا كانت لديه الشجاعة في الوقوف امام ظلم وتحكم رؤسائه.

ظننا نحن طليعة شباب الثورة، ان ما كانت تنادي به من مبادئ شيء حقيقي. كنا نؤمن بكل شعار نادت به الثورة. وضعنا نصب أعيننا قدسية العمل فوق كل اعتبار. لان العمل الجاد والمخلص هو الطريق الوحيد لرفعة الدول والشعوب.

لكن مع الأسف تغيرت وجوه وجاءت وجوه جديدة ولم يهتم احد بالشعب وبسطاء الناس. بل كان جل همهم الاستمرارية في الحكم وتولي شؤون البلاد وخلقوا حولهم مجموعات بشرية ظلما اكثر من ظلم السابقين. هكذا بدأت اشعر بطعم مرارة الكأس. شاب في مقتبل حياته العملية.. طموحاته في خدمة بلده لا حدَ لهاً. يعمل بكل طاقاته من اجل وطنه. يدافع عن زملائه فيحكم عليه بالنفي الى قنا. لم اركب قطارا قبل ذلك.. غير مرة واحدة، فقد كنا اول مدرسة «مدرسة التوفيقية الثانوية بشبرا» أرسلتها وزارة التربية والتعليم برحلة الى الاقصر واسوان عام 1955. انسان ما زالت اسرته في حاجة شديدة الى ما يتقضاه، فكيف يستطيع ان يوفق بين معيشته في قنا ومساعدة العائلة!. زد على ذلك لا اعرف من شؤون الطبخ او عمل البيت شيئا وهاءنذا اواجه الغربة وحدي. لا قريب لنا في قنا ولا صديق، ولا اعرف ما يخبئه لي القدر هناك.

ان نسيت، فلن انسى الليلة التي سبقت سفري الى قنا. امي (رحمها الله) في المطبخ تعد لنا طعام العشاء، دموعها الغزيرة المنهمرة، التي حاولت كثيرا اخفاءها عني، كانت بمثابة احماض كاوية تكوي قلبي وفؤادي ووجداني. بدأت اشعر بان الذنب ذنبي انا في تعذيبها، لكنه المكتوب يا ولدي.. لا لوم عليك يا ولدي.. لا تجعل من ظلم الانسان اداة تحطيم لما انت مؤمن ومقتنع بكل ما تفعله. في الغربة اجعل من بيتك ملجأ وملاذا لكل المغتربين امثالك. لا تظلم احدا يا ولدي، بل كن خادما للناس، يكونون لك اخوة واصدقاء، لا تخشى احد، الرب معك ويحافظ عليك ويمدك بالقوة والحكمة.. اذهب مع والدك واخوتك ، والعشاء دقائق يكون جاهزا.

اسمع صوتها في اذني وهي تحدثني هكذا عندما احتضنتها في المطبخ ومسحت بيدي دموعها.

حدث ايضا في تلك الليلة اننا كنا نستمع الى المذياع وغنى فريد الاطرش اغنية «سافر مع السلامة».. وأصبحت هذه الأغنية تلازمني في اي وقت اكون فيه في القاهرة وموعد عودتي الى قنا في اليوم التالي، نستمع الى فريد الاطرش واغنية «سافر مع السلامة.. ترجع لنا بالسلامة».

ركبت قطار رقم 88 المتجه الى اسوان والذي تحرك من (محطة مصر) في تمام الساعة الثامنة مساء. معي خطاب الى احد الموظفين بمكتب بطاقات بندر قنا.كتب الخطاب زميل في المصلحة يعرف ذلك الموظف . الخطاب كله مدح في كزميل، ويطلب من الزميل القناوي الاهتمام بي.

لم أذق طعم النوم او الراحة في القطار وأنا احاول ان ارسم صورة في خيالي عن قنا والعمل مع الناس في مكاتب البطاقات، منذ ان عينت وأنا اعمل في داخل المصلحة. كنت اذهب الى المكاتب في القاهرة فقط لخدمة الاقارب والاصدقاء ومساعدتهم في الحصول على بطاقاتهم الشخصية.

انا اصولي صعيدية، أبي من «كوم غريب» مركز طما محافظة سوهاج. وامي من «سوهاج» هاجرت امي مع اسرتها الى القاهرة ولم تتعد الرابعة من عمرها، هاجر أبي وعمره 18 عاما، نزل عند زوج خالته (جدي والد امي) للعمل في مصر (القاهرة)، تزوج امي التي ظلت تتكلم باللسان الصعيدي . ولدنا جميعا في القاهرة، لكن القدرة على التحدث باللهجة الصعيدية كنت اتقنها اكثر من اخوتي واخواتي.

قالوا الكثير عن الصعيد وأهل الصعيد.. فيه ما يخيف، وفيه ما يريح، كنت اتطلع الى التعامل معهم والاحتكاك بأكبر عدد من الناس، لأعرف حقيقة أهل الصعيد وقنا في الصعيد (الجواني). اي انها المحافظة قبل الاخيرة.

يبدا الصعيد بمحافظة الجيزة، الى الجنوب الغربي محافظة الفيوم، ثم العودة الى الجنوب محافظة بني سويف ثم المنيا، ثم اسيوط وسوهاج وقنا بعد سوهاج. تعتبر قنا اطول المحافظات. تبدأ بمركز «ابو طشت»، وآخر قرية على الحدود بينها وبين اسوان المحافظة التي تليها جنوبا، قرية «ابو حلة" التابعة لمركز اسنا.

بدأت شمس الصباح في البزوغ وانا في القطار. أبادت ضباب الفجر وأظهرت عنفوانها وقسوة حرارتها. بدأ خيالي يرسم لي صور الذين سألقاهم. بل بدأت أعد الحوار الذي قد يدور بيني وبين زملائي والمفتش رئيسي هناك. وسط هذا الخضم الكثيف الثقيل المليء بالصور والحوارات التي صورها لي خيالي، اتخذت قرارا واحدا قلت فيه لنفسي ما الذي سيكون ، علي ان اواجهه. اوقفت كل الهواجس والافكار الجميل منها والمخيف. يجب ان اتعامل مع كل موقف حسب ما سأواجهه دون فكر محدد من الآن قد يختلف مع واقع المواجهة والظرف والزمن ومن سأواجه.

وقف القطار عند محطة مدينة قنا عاصمة محافظة (قنا)، بعد السادسة صباحا بقليل. نزلت من القطار حاملا حقيبتي، اسرع الي احد (الشيالين) فحمل عني الحقيبة وسألني الى أين انا متجه. قلت له الى مركز شرطة قنا.. نظر الي في خبث واستفسر عن سبب ذهابي الى مركز الشرطة، اخبرته بأنني سأتسلم عملي هناك، فأنا رئيس مكتب بطاقات مركز قنا.. (لقب كبير على شاب لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره). فرح الرجل واخذني الى حيث عربات (الحنطور)، وضع الحقيبة فوق العربة وقال للرجل «وصل البيه لمركز جنا «قنا» حضرته رئيس مكتب بطاجات جنا».. أخرجت من جيبي «قرشين» واعطيتهما له، أخذهما بعد الحاح شديد لأنه رفض اخد اجر مني.

تمخطر الحصان وهو يجر عربة «الحنطور» في شارع قنا الرئيسي وانا ما بين الرغبة في متابعة يقظة المدينة في الصباح الباكر، وبين محاولة اللجوء الى الهدوء النفسي المصطنع الذي كان علي ان اعيشه في تلك الفترة الزمنية.

وصلت الى مركز شرطة قنا.. حمل عني الرجل الحقيبة.. قابلني احد جنود الشرطة مؤديا لي التحية العسكرية.. رددت عليه التحية.. حمل الحقيبة وسألني عن وجهتي.. قلت له أريد أن اعرف اين مكتب بطاقات مركز قنا. تراخي قليلا من عسكريته. لقد ظن انني ضابط شرطة. استمر في حمل الحقيبة الى حيث يوجد المكتب والذي كان بالطبع مغلقا.

لم تمض دقائق واذ بالساعي عسران يأتي الي مهرولاً مرحباً بالاحضان والقبلات.. وكانت اول مفاجئة لي. فعسران هو الساعي نفسه الذي وقع عليه المدير جزاء حسم 3 أيام عندما وجد «غبرة» على الحائط. سألته عن الزميل الذي احمل له خطابا. اخذني الى مبنى المديرية بعد ان صعدت كل هذا الدرج. اذ برجل قصير القامة متجهم الوجه يأخذني اليه عسران ويقدمني له. لم يرحب بي، ولم تبدوعليه ظاهرة ترحيب او شعور بانسان غريب قادم اليه. أخرجت الخطاب الذي معي والحامل اسمه. اخذ مني الخطاب ببرود شديد جدا. فتح الخطاب.. قرأه.. وضعه في جيبه ونزل الدرج دون ان يلتفت اليّ.

اخذني عسران الى حيث يوجد مكتب المفتش وجدت البلوك امين فتحي الذي نهض فرحا وسلم عليّ بحرارة واشتياق واخبرني انه لا المفتش ولا السكرتير قد حضرا الى العمل بعد. فعدنا الى المكتب، فوجئت هناك ان هذا الانسان يشغل الحجرة نفسها التي فيها مكتبي. فهو مسؤول عن البندر وانا مسؤول عن المركز، بدأت عملي مهملا وجوده.

انهمكت في العمل.. بعد فترة سمعت صوتا ينادي.. استاذ الفونس.. استاذ الفونس.. تعجبت من يكون استاذ الفونس هذا. التفت الى مصدر الصوت ووجدت المفتش وكان مدنيا، وكنت قد قمت بتدريبه في المصلحة على العديد من امور العمل. وكان معه سكرتيره الذي تدخل لحل اللغز المحير وهمس في اذن المفتش بصوت مسموع.. ليس هو الشخص الذي ظنناه قادما من القاهرة.

عرفت بعد ذلك ان قرار نقلي الى مكتب «ارمنت الحيط"، كان معدا وموقعا عليه لتنفيذه ساعة وصولي الى قنا.

(يتبع)

ليست هناك تعليقات: