الثلاثاء، ديسمبر 15، 2009

الجدل العلمي والفلسفي بين ابن سينا والبيروني

زهير الخويلدي

" للبيروني نظريات في علم الطبقات والأزمان الجيولوجية... وتقترب نظرياته في هذه العلوم من النظريات الحديثة... ولم تكن هذه النظريات معروفة عند اليونان ولا منتشرة بين معاصريه. ويمكننا أن نعده لذلك من رواد العلوم الجيولوجية، خاصة وأن هذه الأفكار العلمية الصائبة لم تنتشر في أوربا وتأخذ طريقها إلى أبحاث علماء النهضة كليونارد دافنشي وأمثاله إلا بعد وفاة البيروني بعدة قرون."[1]

يبدو أن الفرق بين الفلسفة الغربية والفلسفة العربية الإسلامية عند بعض المؤرخين أن الأولى مبنية على الحوار والتجادل وتاريخها شهد العديد من المراجعات واحتكم إلى منطق الاستيعاب والتجاوز وعرف التراكم والاستمرارية وشهد القطائع والثورات وما رافقها من انكسارات وتحولات، بينما الثانية هي مجرد فلتات للذهن وخواطر وشتات من الآراء متفرقة وتعليقات وشروح متناثرة على نصوص شرقية ومسائل إغريقية لا يوجد بينها رابط منطقي ولم تعريف التبويب والتنظيم ، بل لقد استنتج من ذلك البعض أن الحديث عن تاريخ للفلسفة العربية الإسلامية هو نوع من التجوز والمبالغة وأن هناك فقط فكر أو منظومة من المعارف لم تبلغ من النضج والتماسك والهيكلة التي تسمح لنا بأن نسميها فلسفة واستندوا في ذلك إلى كثرة الانحباسات والتقطعات وغياب التراكم وقلة المجادلة بين المشتغلين بالفلسفة في حضارة إقرأ وفقدان الحوار والمراجعة من طرف اللاحقين على السابقين في المجالات العلمية وعدم وجود مختبرات ومراكز بحثية مشهورة وغياب التقاليد التخصصية وانحصار الاهتمام في الأفراد وافتقاده على صعيد المجموعات. فإلي أي مدى تصح هذه النظرة؟ وكيف يمكن الإسهام في تملك فلسفة الضاد لتاريخها الخاص وفهمها لذاتها ووعيها بأصولها وأسسها وأهدافها؟

إن مثل هذه النظرة هي بالأساس نظرة استشراقية غير منصفة وتصدر عن أحكام مسبقة [2]تمت مراجعتها من قبل المؤرخين الغربيين أنفسهم والدليل أن فكر الكتاب والقراء من حكماء فلسفة الضاد هو فكر جدلي بالأساس يؤمن بآداب المناظرة ويشرع للصداقة والنهل من علوم الأغيار ويدعو إلى التواضع وقابلية التهفيت لكل قول. وقد شهد تاريخ هذا الفكر العديد من الحوارات العلمية بين من يمثلون اختصاصات مختلفة مثل النحو والمنطق وبين ينتمون إلى نفس الاختصاص مثل الفقه أو الكلام والفلسفة سواء الذين عاشوا في نفس الفترة أو حتى بين الذين باعد بينهم الزمان مثل أبي حامد الغزالي وأبي الوليد ابن رشد ومثل الرازيين أبي بكر محمد وأبي حاتم. وقد حصلت مناظرات بين فرقاء في الملة والمذهب والثقافة ونتج عنها نصوص تفاعلية على غاية من الخصوبة والإضافة لعبت فيها الترجمة دورا كبيرا في النقل والتوثيق والأمانة العلمية مجسدة مبدأ حسن الضيافة اللغوية. وقد تمحورت النقاشات حول قضايا لها علاقة بالدين والميتافيزيقا والنبوة والعقل واللغة وارتقت إلى مستوى السجال حول المنهج والأسس التي ينبغي أن تنبني عليها النظريات العلمية والمقدمات اللازمة لكل قول ، ولعل انتشار مجالس الأنس والمسامرة في قصور الخلفاء ولأمراء والحكام قد ساعد على الارتقاء بهذه المناقشات من مجرد المزاحمة والمغالبة العاميتين إلى البحث الأكاديمي والحوار العقلاني والإفادة الموضوعية.

بيد أن اتجاه البعض نحو أسلوب الرسالة الفلسفية التي تطرح فيها أسئلة ويتم الإجابة عنها وينتج عنها اعتراضات وردود هو الأرضية المادية الصلبة لتفعيل العقل التواصلي والجدل العلمي والفلسفي والارتقاء به نحو معانقة الإبداع والتجديد مثل رسائل أبي العلاء المعري إلى ابن القارح ورسالة عمر الخيام إلى عبد الرحيم النسوي وابن عربي إلى فخر الدين الرازي. وإذا كانت رسائل ابن رشد القاضي الفيلسوف وابن عربي الحكيم المتصوف قد لاقت الشهرة وحظيت بالتعريف والإشادة فإن رسائل الفيلسوف الطبيب ابن سينا(980-1037) والعالم البيروني ( 973-1048) بقيت طي الكتمان وتنل ما يستحقها من التحليل المنهجي والدراسة العلمية.

ومن المعلوم أن ابن سينا هو أعظم علماء الإسلام ومن أشهر مشاهير العالميين يمثل فكره المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى ولقد كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق وكتاب القانون في الطب كان الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمن، أما البيروني فقد عرف ببطليموس العرب واشتغل على الصيدلة والكتابة الموسوعية والفلك والتاريخ وترك عدة كتب هي: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" و"القانون المسعودي التفهيم لأوائل صناعة التنجيم" و" استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها" و"تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن " و"الأحجار " وله العديد من الرسائل الأخرى وهي "الاستيعاب في تسطيح الكرة" و"التعليل بإجالة الوهم في معاني النظم" و"تجريد الشعاعات والأنوار" و"الجماهر في معرفة الجواهر" و"التنبيه في صناعة التمويه" و"الإرشاد في أحكام النجوم" و"الاستشهاد باختلاف الأرصاد" و"الشموس الشافية" و"العجائب الطبيعية والغرائب الصناعية" و"تحديد مكان البلد باستخدام خطوط الطول والعرض" و"الميكانيكا والأيدروستاتيكا" و"معرفة سمت القبلة".

في هذا الإطار يتنزل الجهد الكبير الذي بذله الدكتور عبد الكريم اليافي الذي قدم وحقق رسائل الشيخ الرئيس مع عالم الفلك والرياضيات والفيزياء أبي الريحان والتي شاركهما فيها تلميذ ابن سينا أحمد المعصومي، وقد صدرت هذه الرسائل عن دار الفكر بدمشق في طبعتها الأولى سنة 2002 وتحت اسم: حوار البيروني وابن سينا ، وقد اعتمد المحقق على بعض المراجع لإثبات صحة الرسائل منها البهيقي الذي صرح في تتمة صوان الحكمة:" وقد بعث أبو الريحان البيروني مسائل إلى أبي علي فأجاب عنها أبو علي واعترض أبو الريحان على أجوبة أبي علي وهجنه وهجن كلامه "[3].

لقد تضمن الكتاب مقدمة وضم الفصل الأول أجوبة الشيخ الرئيس عن مسائل أبي الريحان البيروني ، ثم توطئة وأسئلة البيروني في ما أخذه على أرسطو وأجوبة ابن سينا وبعد ذلك نجد أسئلة البيروني في الطبيعيات وأجوبتها واعتراضات البيروني على أجوبة ابن سينا في المسائل العشر وفي المسائل الثماني الأخر ، ثم جوابات أحمد ابن علي على اعتراضات البيروني في المسائل العشر الأول وفي المسائل الثماني الأخر. أما الفصل الثاني فقد خصصه الكاتب للحديث عن ملامح وجيزة عن سيرة البيروني وما أحصاه هو بقلمه من تآليفه في حين مناسب من حياته الواسعة، في حين اشتغل في الفصل الثالث على ملامح من سيرة ابن سينا وهو يرويها بنفسه. وفي ذلك يصرح الشيخ الرئيس:"سألت أدام الله سلامتك الإبانة عن مسائل منها ما تراه جديرا أن يؤخذ على أرسطوطاليس إذ تكلم فيها في كتابه الموسوم بالسماء والعالم، ومنها ما التقطته مما أشكل عليك. فأجبتك إلى ذلك وشرعت في شرحها وإبانتها على الإيجاز والاختصار".[4]

من المعلوم أن البيروني ذكر هذه الرسائل في كتابه "الآثار الباقية" بقوله:" وقد ذكرت ذلك في موضع آخر أليق به من هذا الكتاب وخاصة فيما جرى بيني وبين الفتى الفاضل أبي علي الحسين ابن عبد الله بن سينا من المذاكرات في هذا الباب...".

يذكر اليافي أن هذه الرسائل نشرت ضمن مجموعة سميت جامع البدائع عن مطبعة السعادة في مصر سنة 1917 وبعد ذلك قام التركي حلمي ضيا بنشرها في استانبول سنة 1953 ضمن رسائل ابن سينا وترجمة إلى الفارسية والانجليزية من طرف الإيراني سيد حسن نصر عام 1972.

لقد تركز النقاش بين ابن سينا والبيروني حول كتاب أرسطو السماء والعالم المتعلق بالطبيعيات والتي هي عند أرسطو السماع الطبيعي وسمع الكيان والكون والفساد والآثار العلوية والنفس والحس والميتافيزيقا.

أهم القضايا التي أثيرت هي التي دارت حول إنكار أرسطو لتصور الخفة أو الثقل للأجرام وتجويز البيروني ذلك ، واعتبار أرسطو الحركة الطبيعية للفلك طبيعية بينما يرى البيروني أنها قسرية ويرى أن الحركة الطبيعية للأجسام هي المستقيمة ويظهر هنا ابن سينا محافظا أمينا على المشائية ويبدو البيروني مجددا خارجا عن التأليفية الأرسطية لأن الجرام بالفعل هي ذات ثقل وتخضع في دورانها إلى قانون التجاذب والإكراه والتسارع وقانون العطالة يجعل الأجسام المتحركة والساكنة تحافظ على وضعها.

كما يعيب البيروني على أرسطو إهماله للتجارب الخاصة والملاحظة المباشرة واكتفائه بأقوال القدامى وأرائهم في الطبيعة ونسي أن حالة الكون في تغير مستمر وأن الحدوث الحقيقي ليس مجرد كون وفساد في إعراض بل تحول في الجواهر وحمل البيروني مسؤولية وقوع ابن سينا في الخطأ الى يحي النحوي وأبي بكر الرازي القائل بالثبات في الطبيعة.

المسألة الثالثة كانت هندسية رياضية ودارت حول الجهات الستة للمكان التي قال بها أرسطو في المكعب وأيدها ابن سينا والتي رفضها البيروني مستشهدا بانعدامها في مثال الكرة.

المسألة الثالثة دافع فيها البيروني على نظرية الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ التي قال بها علم الكلام الإسلامي ونزلها ضمن نظرية الاتصال والانفصال في المادة التي كان زينون الأيلي قد دحض منها فكرة الحركة المتصلة وخاصة عند العلاف والجويني والبغدادي والتي تتناقض مع التصور المشائي للمادة الذي يرى أن المادة تقبل التجزئة إلى ما لانهاية له بالقوة لا بالفعل.

المسالة الخامسة شملت استغراب البيروني من رفض المشائيين لاحتمال وجود عوالم أخرى مختلفة تماما عن عالمنا الذي نسكنه ولها نفس عناصره وطبيعته هي نفس طبيعة الكون.

المسألة الثالثة ينقد فيها رفض أرسطو للحركة الاهليلجية للأفلاك ويفترض وجود الخلاء الذي يساعدها على مثل هذا النوع من الحركة غير الدائرية ويرى أن الشكل البيضي متولد عن دوران القطع الناقص على محوره الكبير والشكل العدسي متولد من دوران القطع الناقص على محوره الصغير.

في هذا الإطار يبدي البيروني إعجابه بحجج أرسطو التي يرفض بها الحركة البيضية أو العدسية للأفلاك ويعتبر أن حركة الكرية هي مجرد احتمال وينتهي إلى فرضين متكافئين حول حركة الأرض حول الشمس وحركة الشمس حول الأرض وحل سكون الأرض وحركتها حول نفسها ولكنه يجوز الفرضية الثانية الأرسطية لمجرد سهولة الحساب عنده تجنبا لتعقيدات لا يستطيع توضيحها ولكنه ينتهي إلى الإقرار بأن حركة الفلك يمكن أن تكون ناقصة وهذا ثورة كبيرة على النظرية الأرسطية التي تقول بالكمال.

المسألة السابعة ينقد فيها البيروني الرأي الأرسطي الذي يقر بأن الحركة تبدأ من اليمين إلى اليسار واعتبار الشرق هو اليمين والغرب هو اليسار وتصل به جرأته إلى حد توضيح الرأي الأرسطي القائل بأن أصل حركة السماء هو من الشرق إلى الغرب أي من اليمين إلى اليسار.

المسألة الثامنة التي دار حولها النقاش كانت هامة وتمحورت حول الحرارة وما أضافه البيروني عندما رفض قول أرسطو حول النار بأنها عنصر ذي شكل كري وقال بكون الحرارة متولدة من حركة الفلك ويرى أن أرسطو وقع في الخلف عندما اعتبر النار عنصرا مستقلا ورفض أن تكون الحرارة متولدة من حركة الفلك.

المسألة التاسعة هي مواصلة للثامنة ومشكل النار والحرارة ويثير فيها الإشكال على غاية من الخطورة وتجعل حضارة اقرأ على قاب قوسين أو أدنى من الدخول إلى العصر الطاقوي الذي شهدته الحضارة الغربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى قبل أن يعرفوا العصر البخاري والميكانيكي ويتمثل في ما يلي:إذا كان من طبيعة الحرارة أن تصعد فكيف يتسنى لحرارة الشمس أن تصل إلينا؟ وما الشعاعات والشهب التي نشاهدها في السماء أهي أجسام أنم أعراض أم غير ذلك؟

إن هذه المساءلة لم تطرح في العلوم الفيزيائية الغربية إلا في فترة قريبة من بداية القرن العشرين وخاصة حول طبيعة الضوء ومصدر الطاقة ونرى كيف يستغرب البيروني من رفض ابن سينا أن يكون الشعاع جسما وقوله بأنه مجرد صفة للأجسام المضاءة ورفضه كذلك لحركة الحرارة واعتباره أنها نتيجة انعكاس الضوء والشعاعات ومنقولة من طرف الأجسام المتحركة. هنا يرى البيروني أن الحرارة موجودة في الشعاع نفسه وليست مجرد انعكاس للشعاع على الأجسام وهذا الأمر قريب من تعريف العلم المعاصر للحرارة على أنها ضرب من ضروب الطاقة وفي هذا يبين:"وقد قيل في سبب الحرارة الموجودة مع شعاع الشمس أنه احتداد زوايا انعكاسه وليس ذلك بل هو موجود معه."

بيد أن البيروني يعانق الإبداع وتنسب له الجدة عند حيدثه عن أن الشعاع يتكون من جسيمات مقرونة بأمواج وانتباهه إلى الحركة السريعة للضوء وصعوبة قياسها وشبهها بقرع الصوت في الهواء.

المسألة العاشرة أتى فيها البيروني على طبيعة الأجسام ورفض فيها رفضا قاطعا الأوهام التي وقعت فيها السيمياء العربية والتي قالت بإمكانية استخلاص الذهب من التراب وبالتالي فهو قد نفى استحالة الأجسام وأبقى على الحالات الثلاثة أي الصلابة والسيولة والغازية وقال بالتداخل والامتزاج والتفرق والتغير بخلع المواد لصور أولى وقبولها لصور ثانية.

وانتهى البيروني إلى طرح أسئلة على غاية من الدقة في علم البصريات والرياضيات والجغرافيا والفلك والفيزياء فصل في ثمانية:

1- إذا ملئت زجاجة مدورة كالكرة ماء صافيا، قامت مقام العدسة، فجمعت الأشعة التي تجتازها في بؤرة لها، يمكن أن يتم فيها حادثة الإحراق أما إذا خلت من الماء وامتلأت بالهواء فلم تحرق ولم تتجمع الأشعة التي تجتازها. فكيف نفسر ذلك، مع العلم أن الماء ألصق بالرطوبة؟

2- يرى فريق أن الماء والأرض أي التراب حركتهما الطبيعية نحو الأسفل والهواء والنار حركتهما الطبيعية نوح الأعلى. ويرى فريق آخر أن جميع هذه العناصر تتحرك نحو الأسفل. فما الرأي الصحيح؟

3- كيف تتم الرؤية وكيف نبصر ما يكون تحت الماء، مع أن الماء جسم صقيل، والنور يعكس عن الأجسام الصقيلة؟

4- لم كان ربع الكرة الأرضية من نصفها الشمالي معمورا والباقي وهو الربع الآخر الشمالي والنصف الجنوبي يكاد يكون خاليا مع أن أحكامها جميعا واحدة؟

5- نأخذ مربعا ونقسمه أربعة مربعات. ولكن كيف يمكن لمربعين منها متقابلي أن يكونا متماسين؟

6- إذا كان لا يوجد خلاء داخل العالم ولا خارجه، فلم إذا مصصنا قارورة وقلبناها داخل الماء صعد الماء فيها؟

7- إذا كانت الأشياء تنبسط، أي تتمدد بالحرارة وتنقبض أي تتقلص بالبرودة فلم تنصدع القوارير إذا جمد الماء فيها؟

8- لم يطفو الجمد أو الجليد على الماء مع أنه أجزاء صلبة أرضية وهي أكثر صلابة من الماء وينبغي أن يكون لذلك أثقل منه؟

هذه الرسائل هي نوع من التحدي الذي يبديها العلماء المسلمون تجاه الفلاسفة الأكثر التصاقا باللوغوس الإغريقي وقد وفرت لهم مناهجهم المستحدثة ومنزعهم التجريبي المتطور مثل هذه الاستقلالية والجرأة، ورغم أن المقارنة لا تجوز هنا بين ابن سينا الفيلسوف والمنطقي والطبيب الشاب أنذاك وأبي الرحيان البيروني العالم العقلاني والرياضي والفلكي الأكبر منه سنا وتجربة إلا أننا نستطيع القول أن الشخصية الأولى كانت لها ريادة مخصوصة في مجال الحكمة المشرقية والمنطق والميتافيزيقا وعلوم الأحياء وخاصة الطب أسوة بجالينوس ومخالفة لأرسطو، ولكن الشخصية الثانية كان لها الفضل الكبير في تشكل منظومة علوم عربية إسلامية ربما كانت قد قطعت مع التأليفية الإغريقية بعد أن حاولت إصلاحها وترميمها من الداخل والتخلي عنها نسبيا فيما بعد وإبداع فرضيات علمية جديدة تعكس نظرة الشرقي إلى الكون وخاصة إثبات وجود الخلاء في السماء وتحديد الحرارة بكونها منبعثة من الشعاع الضوئي والتطرق إلى قوانين الاحتكاك والعطالة والتسارع والضغط وتساؤلهم عن مكونات المادة وطبيعة الضوء والتفكيك العميق لنظرية مركزية الأرض وكونها مسطحة وثابتة والتشكيك في العناصر الأربعة( الماء والهواء والنار والتراب) والقول بإمكانية تحول الأشياء في حالة إلى أخرى (صلابة وسيولة وغازية) وتقديم قياسات تقريبية عن المسافة التي تفصل بين الأرض والقمر والشمس بالاعتماد على حساب المثلثات الهندسي وتوجيه أنظار العلماء نحو مناطق من الكوكب مازلت مجهولة ودعوتهم إلى استكشافها وعقلنتها وهو ما تم فعلا في أواخر القرن الخامس عشر مع الرحلات الكبرى إلى العالم الجديد انطلاقا من أرض الأندلس حيث بلغت العلوم العربية مع نور الدين البطروجي أوجها.

نحن نعلم أن ابن سينا كتب في الرياضيات والطبيعيات وعلم الفلك وله رسائل في إبطال أحكام النجوم وفي الأجرام العلوية وأسباب البرق والرعد ورسالة في الفضاء ورسالة في النبات والحيوان وأنها مازالت تحتاج إلى الدراسة ولكن عرف عنها أنها تعليق على المحاور التي اهتم بها أرسطو ظلت تدور في فلكه. ولكن ينسب إلى البيروني أنه أول من فرق بين سرعة الضوء وسرعة الصوت وتحدث عن دوران الأرض ورسم خطوط الطول والعرض لها ووضع نظرية لاستخراج محيطها و ساهم في تقسيم الزاوية ثلاثة أقسام متساوية، وكان متعمقاً في معرفة قانون تناسب الجيوب وبرع في الصيدلة وصناعة الأدوية ووضع الوزن النوعي للأجسام الصغيرة مثل المعادن النفيسة والأحجار الكريمة واستطاع ضبط أجزاء الدائرة الكبرى بالاعتماد على أجزاء الدائرة الصغرى وكان أول من تحدث عن العقاقير وبرع في صنع بعض الطرائق الكيمياوية الهامة كالتصعيد والتسامي والتقطير والتشميع والترشيح إضافة إلى تحضير عدة مركبات كيميائية، وقد اشتغل كذلك بالجداول الرياضية للجيب والظل التي كان قد وضعها أبو الوفاء البوزجاني وشرح كيفية صعود مياه الفوارات والينابيع من تحت إلى فوق، وكيفية ارتفاع السوائل في الأوعية المتصلة إلى مستوى واحد، على الرغم من اختلاف أشكالها وأحجامها.

صفوة القول أن الإجابات الفلسفية السنوية على الإشكاليات العلمية المطروحة من قبل البيروني كانت دفاعية منتصرة للتأليفية الأرسطية وللآراء الموروثة عن اليونان وخاصة عند كل من أرخميدس وبطليموس وفيثاغورس وطاليس وعطلت انطلاقة حركة الاختراع العلمي عند العرب والمسلمين.

على خلاف ذلك إن انتصار البيروني إلى التجربة والرياضيات هو من العوامل التي ساعدته على بلورة جملة من المسائل الدقيقة التي أحرجت العقل الفلسفي والعلمي في عصره وكادت تحقق القطيعة مع الكوسموس الإغريقي وتدفع العلوم في حضارة اقرأ إلى تخوم مستحدثة والدخول بها نحو قارات معرفية جديدة مثل الهدروليكا وعلم الضوء وعلم الطاقة والميكروفيزياء والماكروفيزياء. لكن السؤال الذي يطرح في خاتمة هذا التقديم لهذه المناظرة عن طريق المراسلة هو : هل ساعد المنهج الرياضي البيروني العالم على معانقة الخيال الإبداعي ؟ وكيف أعاقت الخلفية المنطقية التي تنبني على الحجاج والتبكيت عند الحوار والرد على الخصوم ابن سينا عن الذهاب بعيدا على المستوى العقلانية الفيزيائية من التصورات الإغريقية السائدة في عصره؟ وأين ذهب مثل هذا السبق العلمي الذي تميز به البيروني؟ ولماذا لم يؤثر بشكل حاسم في علوم عصره؟ وأليست العقلانية العلمية الغربية الحديثة والمعاصرة هي رجع صدى للمفارقات الفلسفية التي كشف عنها البيروني للعقلانية الإغريقية في ترجتمها العربية في الفترة الوسيطة؟

المراجع:

أرتور مارش، التفكير الجديد في الفيزياء الحديثة ، ترجمة علي بالحاج، المؤسسة الوطنية للترجمة ،بيت الحكمة، قرطاج1986 .

بركات محمد مراد، نظريات البيروني الجيولوجية، مجلة حراء، عدد 16 سبتمبر 2009

عبد الكريم اليافي، حوار البيروني وابن سينا، دار الفكر، دمشق ، الطبعة الأولى 2002،

[1] بركات محمد مراد، نظريات البيروني الجيولوجية، مجلة حراء، عدد 16 سبتمبر 2009

[2] يعبر أرتور مارش عن هذا الموقف عندما ينتقل مباشرة من التصور الذري عند ديمقريطس الى غاليلي ونيوتن دون أن يشير الى أهمية نظرية الجوهر الفرد التي تبناها البيروني، راجع كتابه التفكير الجديد في الفيزياء الحديثة ، ترجمة علي بالحاج، المؤسسة الوطنية للترجمة بيت الحكمة، قرطاج1986 ، حيث يخلو من أية إشارة إلى العلوم العربية.

[3] البهيقي، تتمة صوان الحكمة، طبع في لاهور، سنة 1351 هجري، ص 27. ذكره عبد الكريم اليافي، في مقدمة كتاب حوار البيروني وابن سينا، دار الفكر، دمشق ، الطبعة الأولى 2002.

[4] عبد الكريم اليافي، حوار البيروني وابن سينا، دار الفكر، دمشق ، الطبعة الأولى 2002، ص 36.


ليست هناك تعليقات: