الأربعاء، ديسمبر 16، 2009

ذكريات.. العمر اللي فات اولا: في مصر 11

انطوني ولسن

(ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، انزل فيها من قطار الحاضر محاولاً الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. اثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا او من هناك، اربطها بحكاية اخرى او حكايات، ان اقتضي الامر العودة الى قطار الحاضر. سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوماً.. ذكريات العمر اللي فات).

دعونا الآن نكمل الحكاية..

في أقل من شهر تم نقلنا، المفتش ونحن الذين معه من قسم التحرير الى قسم الوثائق لانجاز العمل المتراكم في القسم.

بقي شيء واحد اتذكره. المفتش ضابط الشرطة رئيس قسم الوثائق السابق.. كان شقيقا لأحد الوزراء في عهد جمال عبد الناصر.. معبود الجماهير..

دار لغط كبير في دهاليز المصلحة (مصلحة الاحوال المدنية) وطرقاتها عن خبر تعيين اللواء مصطفى النويهي مديرا عاما للمصلحة.

اللواء مصطفى النويهي رحمه الله يعتبر اقوى شخصية عسكرية عرفتها وزارة الداخلية المصرية في الستينات. يهابه كل عسكري من الجندي الى أعلى رتبة عسكرية بالوزارة. رجل ضبط وربط وانضباط ولا يقبل ابدا الخلط بين الحياة المدنية والحياة العسكرية.

تلقت الأذن الخبر في دهشة واستعجاب واستغراب. لأن المدير الحالي لا يمكن (زحزحته) من مكانه وإن لم يرق الىمنصب المدير، إلا أن له صلاحيات المدير العام كاملة متكاملة.

صدق الخبر وتولى اللواء مصطفى النويهي وتقلد عمله مديرا عاما لمصلحة تحمل اسم الاحوال المدنية ولكنها تابعة لوزارة الداخلية، والمسؤولون فيها من الضباط، ضباط شرطة عسكريين ارادت الوزارة احالتهم على المعاش مبكرا فأسندت اليهم العمل في المصلحة، سواء في المركز الرئيسي او اي فرع من فروعها المنتشرة في طول البلاد وعرضها.

تذمروا فيما بينهم (حضرات الضباط).. حتى اكثرهم عسكرية كان قد بدأ «يستطعم» الحياة المدنية وان كان ما زال مرتديا الزي العسكري.

جاء المدير الجديد فانقلبت المصلحة رأسا على عقب. تكهرب الجو واضطربت الاعصاب وساد المكان جو من الرهبة، ولا اكذب لو قلت من الرعب والخوف ايضاً

في صباح أحد الايام نادى عليّ رئيسي (العقيد محمد نصار خليل) وطلب مني ان اتوجه الى مكتب سيادة المدير العام لأنه طلبني بالاسم. نظرت اليه متسائلاً عما يمكن ان يريدني فيه سيادته، هز كتفه معبرا انه لا يعرف. استأذنت منه وتوجهت الى مكتب سيادة المدير العام اللواء مصطفى النويهي.

دخلت على الرجل فاذ به يقف مادا يده مصافحامبتسما مرحباً.. أسرعت الخطى ووضعت يدي ف يده مصافحاً مرحباً به مديرا عاما للمصلحة.

عاد الرجل الى جلسته مستأذنا مني السماح له بدقائق قليلة حتى ينهي العمل الذي بيده.

اثناء ذلك دخل احد ضباط المصلحة القدامى وأدى التحية العسكرية المضبوطة. رفع اللواء النويهي يده محببا ردا على تحية الضابط ولكنه لم يرفع عينه عن الورق الذي امامه. استمر الضابط في وقفته العسكرية مدة من الزمن قد تكون بضعة دقائق. لكن الضابط بدأ يتململ في وقفته واسترخى قليلا، فرفع اللواء النويهي رأسه وتطلع ايه بعين غاضبة. فعاد الضابط المسكين الى وقفته العسكرية.

كل هذا وأنا جالس فوق كرسي امام مكتب سيادة المدير العام اللواء مصطفى النويهي وأنااضرب اخماسا في اسداس عن ماذا يريد مني سيادته.

مرت الدقائق وكأنها ساعات. انهي المدير العام ما كان بيده من عمل. سلمه بعد ذلك للضابط وأمره بالانصراف، فأنصرف بعد ان ادى التحية العسكرية. ولم أرَ مثل هذا المشهد طوال وجودي بالمصلحة. المهم انه (المدير العام) تأسف على انتظاري طويلا في مكتبه وقال لي:

*سأدخل في الموضوع مباشرة.. انني أبحث عن موظف كفء ليتولى مهام سكرتيري الخاص. من دراستي لملفات الموظفين أخترت احد الموظفين من خريجي الجامعات.. لكنه اعتذر ووقع اختياري عليك انت يا بطل.. فما رأيك؟

كانت مفاجئة غير متوقعة اطلاقا.. كل ما سمح به خيالي من تصور هو انه لربما يريد ارسالي الى مهمة خاصة لاعادة ترتيب او تنظيم احد المكاتب في اي مكان في الجمهورية.. اما ان اكون سكرتيره الخاص فهذا لم اكن اتوقعه او أحلم به.

وجاءت اجابتي هكذا.

- انه لشرف عظيم جدا يا أفندم انا لا استحقه.. لكن اذا كان هذا هو اختياركم، فلي طلب بسيط ارجو ان تفتح لي سيادتكم قلبكم للحديث.

*اتفضل يا ابني.. تكلم..

- دعني اسأل سيادتكم.. اذا تركتم هذاالمكان الى مكان وعمل آخر في الوزارة.. هل سأكون مع سيادتكم؟

* لا اظن.. لكن ما الذي يجعلك تظن انني لن أبقى هنا؟

- لأن رجل مثلك لا مكان له هنا.. مكانك في منصب أدق وأكثر اهمية من هذا المكان. لذا لو سمحت لي ان اقول لسيادتكم انني ارفض العمل مع من سيأتي من بعدكم، لأنني لن اكون سكرتيره الخاص في المصلحة فقط. وسيادتكم تعرفون، وأنا لا أصلح لهذا..

ساد صمت قصير بيننا قطعته قائلاً:

- لكن يا أفندم عندي الموظف الذي سيبذل قصارى جهده للعمل مع سيادتكم، وأيضا من سيأتي بعدكم.. لو سمحتم لي أعود الى عملي وارسله لكم.

أرسلت له أحد الموظفين الذين يعملون معي بعد أن أخبرت رئيسي المباشر بما دار بيننا دون التلميح بمسألة نقل سيادة المدير العام الى مكان آخر. وذلك لحكمة ارتأيتها لأن نظريتي بنيتها على ان هذا الجو العسكري البغيض على نفس كل من يعمل بالمصلحة سيخلق حالة تذمر شديد بين الضباط. زدّ على ذلك ان القائم باعمال المدير العام لن يسكت على هذا الأمر مهما عينت الوزارة من مدراء، فما بالنا بمدير مثل اللواء مصطفى النويهي.

في أقل من ستة أشهر مضت على ذلك اللقاء كنت اسير ضمن طابور المودعين لسيادة المدير العام. ما أن وضعت يدي في يده مصافحاً حتى شدّ على يدي مما حدا بي ان أضع كف يدي اليسرى فوق يده مودعا.. وقد لاحظ ذلك رئيسي المباشر الذي ما ان رأني حتى قال:

*إف الحمدلله استريحنا منه.

شيء آخر حدث، فقد منحتني المصلحة في ذلك العام مكافأة مالية على عملي. وكانت المكافأة المالية اليتيمة طيلة خدمتي بالمصلحة امتدت الى سبعة عشر عاما. وايضاً الزميل الجامعي الذي وقع عليه اختياراللواء مصطفى النويهي، كان مسيحياً.

هذه الذكريات عن العمل يتلازم معها ذكريات تعتبر لها اهمية خاصة بالنسبة لعائلتي.. العائلة التي واجهت صعوبات مادية لتوقف أبي عن العمل التجاري. وكما سبق وذكرت في بعض من ذكرياتي اننا الثلاثة الكبار خرجناللعمل. أنا كموظف في وزارة الدالخية بعد حصولي على شهادة التوجيهية عام 1955 و شقيقي صدقي الاصغر مني ويونان الاصغر منه كلاهما عملا عند الحاج محمد ميت كيس تاجر الجملة في الأزهر.. استطاع يونان الحصول على ليسانس حقوق من جامعة القاهرة. وكان اثناء دراسته ما زال يعمل في محلات الحاج محمد ميتكيس.. بل حصل في الليسانس على جيد جدا مما أهله للعمل كوكيل نيابة في الصعيد.. لكنه رفض العمل فعينه ديوان الموظفين في وزارة المالية.. مع نفس الخط حدث تغير مع شقيقي صدقي، فقد شجعه كثير من التجار الذين يعرفون انه ابن تاجر زميل لهم يعرفون تمام المعرفة ويعرفون انه توقف (والدي) عن العمل لأمانته وشرفه وعدم موافقته على ما فعله من ضمنه ابي في تجارته وأعلن افلاسه بعد أقل من عام. اقول تشجيع التجار ان كانوا تجار جملة او (قطاعي) لشقيقي صدقي للعمل التجاري المستقل والخاص به كان له دفعة قوية للتفكير الجاد لهذا الموضوع . فكر صدقي في الأمر جدياً. وافته الفرصة بخلو أحد المحلات داخل عمارة طلال بشارع الأزهر. فقام باستئجاره وبدأ يستعد ليوم الافتتاح. كل هذا وهو ما يزال يعمل في محل الحاج محمد ميتكيس. سأله احد التجار مرة ماذا تنوي ان تفعل؟ أجاب انه سيخبر الحاج محمد بكل شيء ويطلب منه افتتاح المحل. سأله التاجر مرة اخرى، واذا رفض الحاج ذلك؟ كانت اجابته الفورية سأغلق المحل ولن أفكر في التجارة وسأظل اعمل معه.

في يوم الافتتاح، وفي الصباح الباكر توجه صدقي الى الحاج محمد وأخبره بقصة المحل وطلب منه افتتاح المحل بنفسه.

غضب الحاج محمد ميتكيس، ولم يكن غضبه منبعه ترك صدقي العمل معه، بل كان منبعه عدم استشارة صدقي له.

بعد ان شرح صدقي للحاج محمد الظروف التي احاطت بالفكرة وانه مصمم على اغلاق المحل اذا رفض هو (الحاج محمد) التوجه معه وافتتاح المحل فأطمئن قلبه وذهب مع شقيقي وقام بافتتاح المحل وسط تصفيق التجار وفرحة صدقي باعادة العمل التجاري للأسرة وبشكل اكبر كتاجر جملة في الأزهر.

راجت تجارة اخي وتوسع وقام بشراء محل جديد في شارع الأزهر نفسه على بعد امتار من محلات الحاج محمد ميتكيس وبجورا الحاج عبد السميع ميتكيس ابن عم الحاج محمد، وايضا الحاج صبري اظرف شخصية تعرفت عليها في حياتي. وكان حبه لأخي وحرصه على مصلحته لا غبار عليهما كأخ كبير يعطف ويراعي شؤون أخيه الصغير. وطبيعي لم يتدخل الدين ليكون حائلاً بين العلاقات الوطنية الصادقة الأمينة.

اما النظام التجاري السياسي فحدث ولا حرج. كانت التأميمات قد طبقت، ونظام القطاع العام قد عُمل به، واصبحت التجارة تسير بخطى حثيثة الى نوع من المخاطرة. مثلا تجار الجملة المفروض انهم يبيعون بسعر اقل من سعر (القطاعي) لكن كان يحدث العكس، على سبيل المثال لو ان تاجر (القطاعي) يبيع متر القماش من النوع (س) بسعر عشرة قروش حسب تسعيرة الحكومة، لكنه يشتري (تاجر القطاعي) المتر الواحد من الصنف نفسه بـ 12 قرشاً.. واذا سألنا تاجر الجملة لماذا يبيعه بسعر أغلى من سعر (القطاعي).. يقسم لك (وهو صادق في قسمه) بأن مكسبه لا يتعدى 5 مليمات في المتر الواحد. ولنا ان نتخيل هذا النوع من التجارة. والسبب ان تجار الجملة كانوا يشترون من شركات القطاع العام التي أصبحت الوريثة الشرعية للتجارة والصناعة في مصر، والتي أُعتبرت (العزبة) التي يمتلكها المقربون من رجال الحكم. والأدهى من ذلك حُرمت عليهم (اي تجار الجملة) أصناف كثيرة جدا من التجارة فيها. فقد حدث ذات يوم ان سافر صدقي الى بيروت للأطمئنان على العائلة بعدما اتخذنا قرار الهجرة (وسيأتي الحديث عن ذلك فيما بعد)، فقمت انا اثناء غيابه بالعمل في المحل. ذات يوم طلب مني الموظفون والعمال ان أمسك (بدفتر وقلم) واكتب اسم الصنف وعدد الأثواب او البالات لكل صنف يعطونه (للحمال) فتحي الذي يقوم بلف البضاعة وحزمها وكأنها معدة للشحن الى التجار.

بعد الانتهاء من هذا العمل المضني الشاق. نظرت الى المحل فوجدته شبه خال من البضاعة. استفسرت عن ما فعلنا. قالوا لي انه يوجد (كبسه) من رجال مباحث التموين على بعد قريب منا، فكان لزاما علينا التخلص من البضاعة الممنوع المتاجرة بها عندنا. معنى هذا اننا نتاجر في الممنوع.. فهل هناك مهزلة في الدنيا مثل تلك المهزلة؟. لا أظن..

(يتبع)

ليست هناك تعليقات: