الأربعاء، ديسمبر 09، 2009

ذكريات.. العمر اللي فات اولا: في مصر 10

انطوني ولسن

(ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، انزل فيها من قطار الحاضر محاولاً الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. اثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا او من هناك، اربطها بحكاية اخرى او حكايات، ان اقتضي الامر العودة الى قطار الحاضر. سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوماً.. ذكريات العمر اللي فات).

دعونا الآن نكمل الحكاية..

... أخبرني اولهم قصة مفادها ان احد الزملاء المسافرين اليوم التالي يريد نقودا لشراء ما يحتاج اليه من بضاعة من العريش على ان يرسل له ما سيأخذه منه من نقود ساعة وصوله الى القاهرة.. أي ان المدة ستكون قصيرة جداً وتعود اليه النقود.

سألته:

- وماذا فعلت؟

- ارجأت الحديث معه الى حين أخذ رأيك.

- لا تدفع لأحد أي نقود ولا تشتر من أحد أي شيء دون علمي.

تكرر الشيء ذاته مع الزملاء الأربعة المصاحبين لي في العمل ونظرائهم في المجموعة الاخرى ونصحتهم نفس النصيحة.

تكهرب الجو وكثر اللغط وأرسلوا لي زميلاً مسيحياً ليلتقي بي (في القهوة). تحدث معي بكل ادب شارحا الظرف الذي هم فيه مطمئناً لي بان اي مبلغ من المال سيأخذه أي زميل سيرسله في نفس يوم الوصول الى القاهرة.

هززت رأسي مشجعاً له على الاستمرار في الحديث الى ان اسكته بجملة واحدة طلبت منه فيها وبقية زملائه ورئيس البعثة الحضور الى غرفتي في (اللوكاندة). تركني وذهب ليخبر زملاءه. جاء الزملاء الذين معي وحاولوا معرفة ما انا سأخبرهم به.. أصريت على الصمت لحين حضور الجميع.

بالفعل حضر عصام رئيس المجموعة والزملاء الأربعة بما فيهم بالطبع ميخائيل الزميل المسيحي. بدأت حديثي معهم شارحا حقيقة الموقف الذي نحن فيه جميعاً. جئنا هذه المأمورية طمعا في شراء ما يحتاجه كل منا سواء للأستعمال الشخصي او المتاجرة. ولا شك ان كل منا معه كشف باسماء المشتريات التي ينوي شراءها. وكم أنا أسف لما حدث لكم من نفاد نقودكم قبل شراء ما تريدون واليكم اقتراحي الذي أرى فيه حلا لمشكلتكم المادية ومشكلتنا الشرائية.

اشرأبت الأعناق وجحظت العيون وساد المكان هدوء شديد في انتظار ما ستتفتق عنه عبقريتي لحل هذه الازمة. بعد صمت متعمد مني قلت لهم:

- لا شك ان واجب كل منا مساعدة الآخر.. وانه لا مجال للشك في حُسن نوايانا تجاه بعضنا البعض. مأموريتكم انتهت واشتريتم ما اشتريتم، وتريدون شراء المزيد ومع الأسف ليس معكم نقود. ونحن في اول يوم لنا، معنا النقود وليس معنا البضاعة. لذا اقترح على كل من يريد نقوداً من أي زميل معي بمن فيهم أنا نفسي أن يحضر حقيبته ويفتحها لزميله ليختار منها ما يحتاج شراءه ويدفع له ثمنها على ان تكون امانة عنده اذا وصلت النقود كما وعدتم جميعا بارسالها فور وصولكم القاهرة. اما في حالة عدم ارسال النقود يكون الزميل قد اشترى ما يريد ودفع ثمنه ولا حل آخر عندي.

اول من سبني من الزملاء كان ميخائيل وكدنا نشتبك بالأيدي. انفضّ الجميع وشعرت بضيق شديد فقررت ترك العريش والذهاب الى المعكسر الذي سنبدأ العمل منه غدا. اجريت اتصالاتي بالمسؤولين الذين وعدوني بإرسال سيارتين.. سيارة لنا وأخرى للمعدات التي معنا.

وصلنا الى نقطة العمل، ذهبنا الى حيث العمل في وضع الخيام. سألت عن خيام الاحوال المدنية. دلّوني عليها. رئيس المعسكر «صول» في الجيش المصري من العريش. انتظرنا اكثر من ساعة في المكان الذي حددوه لنا. لم يعرنا احد التفاتة.. ولم يهتم بنا أحد.

استشطت غضبا وبدأ صوتي يعلو.. بل تحركت والزملاء وحملنا المعدات وحقائبنا واتجهنا الى الطريق العام لنستقل (الباص) عودة الى العريش. وصلنا الطريق العام دون ان أعرف أي اتجاه الى العريش.. وقفنا على قارعة الطريق وحضرة الصول يحاول كل جهده ان يثنيني عن قراري. اشترك في المحاولة إعرابي وصمم على ان نبيت الليلة في كوخه المتواضع الذي شرب فيه الشاي الرئيس جمال عبد الناصر، وأنا مُصرّ على موقفي.

مرّ امامنا (باص).. لم يقف.. لم أعرف انه متجه الى العريش.بُعُدَ الباص.. سكت حضرة الصول، ادار ظهره لي ومشى. هنا عرفت أن ذلك الباص كان متجها الى العريش.

جاءني شرطي.. تحدث معي باللهجة المصرية.. سألني عن محل اقامتي في مصر (القاهرة).. أخبرته انني من شبرا.. قال انه من باب الشعرية.. ابن بلد واصيل.. حمل اغراضنا وعاد بنا الى المعسكر. في خلال نصف ساعة كانت خيامنا جاهزة. قضينا الليلة الأولى مع العسكري المجند عبد الحميد الذي خفف عنا. وكان يوم ساخن قضيناه في العريش وفي معسكر الجفجافة على ما اتذكر.

على الرغم من محاولاتي كسر شوكة (القرف) التي اصبت بها في اليوم الاول، إلا أنني لم استطع. وقبل وصولنا الى مدينة السويس اتصلت بالسيد وكيل عام المصلحة واخبرته برغبتي في العودة الى القاهرة، على ان ترسل المصلحة من ينوب عني.. فوافق سيادته.

عند وصولنا مدينة السويس تركت المعسكر بعد ان سلمت كل ما كنت مسؤولاً عنه من بطاقات عائلية وشخصية وأوراق وغير ذلك من عهدة الى اقدم زميل كان معنا بعد ان وقع بالاستلام، وتوجهت الى محطة القطار، ركبت القطار المتجه الى القاهرة غير نادم على شيء. فقد كانت اسوأ مأمورية قمت بها، على الرغم من ان رئيس البعثة الضابط الطبيب البيطري كان شخصية حبوبة وكذلك مجموعة الوحدة الصحية والأطباء البشريين كنا نقضي الوقت نمزح..والشعب البدوي أناس طيبون بسطاء. واتذكر انني سمعت أغنية ام كلثوم «أنت عمري» عندما غنتها اول مرة وكنت في تلك الليلة في العريش. ومع ذلك فضلت العودة وترك المكان غير نادم.

بعد عودتي من مأمورية العريش فوجئت بصدور أمر من سيادة المفتش بالعمل كموظف عادي وسحب مني عملي السابق كسكرتير خاص له و للقسم الذي يرأسه هو. بل زدّ على ذلك لم أعود الى عملي كرئيس المنطقة الاولى بقسم التحرير. لم اعترض ولم أعمل كما يجب.. بل أثرت الصمت، وتركت للآخرين نقل اعتراضي الصامت الى المفتش. لمعرفتي بطباع المفتش التي تميل الى عادات وتقاليد أهل الريف من حيث واجب المرور عليه صباح كل يوم لالقاء تحية الصباح ولا مانع من «دردشة» عابرة في أي موضوع وطبيعي تتبع أخباري من الزملاء. وكان الارتباط بيننا أكثر من الآخرين. يكتب القصيدة الشعرية وأكتب أنا خواطري الادبية ونتبادل الكتابة والرأي. لذا تعمدت لمدة شهر كامل تجنب رؤيته والابتعاد نهائيا عن أي مكان يمكن ان نلتقي فيه، الى أن حدث ذات يوم فأجأني فيه بوضع يده فوق كتفي من الخلف وقال:

- فينك يا راجل.. انت بتشتغل معانا واللا رحت مكان تاني!!

- سيادتك أدرى..

- طيب فوت عليَا في المكتب انا عايزك..

ذهبت اليه في مكتبه وكل تفكيري انه سيلومني على اهمالي الذي يكاد يكون تام للعمل. وكنت مستعدا للمواجهة. لكن الغريب في الأمر انه ناقشني في أمور العمل، ورأيي في قسم الوثائق من حيث الأشراف على القسم وطبيعة العمل وكيف يعتبر وبحق العمود الفقري للمصلحة.

فهمت ما يرمي اليه وبسرعة اقترحت عليه أن يحصل على اذن من سيادة المدير العام او الوكيل بإجراء مسابقة بين المناطق في قسم التحرير الذي يرأسه هو، وتحديد ثلاث جوائز للموظفين وجائزة لرئيس المنطقة الذي تنجز منطقته التي يترأسها اكبر عدد من العمل في خلال شهر يحدد لذلك.. بهذا الشكل سيتراكم العمل في قسم الوثائق ولن يستطيع موظفو القسم القيام بالعمل فيوكل الينا نحن (عتاولة) المصلحة القيام به.

أبتسم ابتسامة خفيفة وهو يحرك أصبعه الابهام والأول فوق ذقنه (وكانت تلك عادته عندما يفكر في اي موضوع او يستمع الى أي رأي هام)، ثم قال لي:

- اتفضل روح لمكتبك.. وأنا متشكر..

نهضت متجهاً خارج مكتبه.. ولم أكن قد خرجت بعد حتى ناداني قائلاً:

- على فكرة أنا اصدرت امري انك ترجع تمسك رئاسة المنطقة الأولى وايضاً المنطقة الرابعة لحين ما ينهي أحمد امتحاناته. وما تبقاش تتقل بالشكل ده، انا برضه موجود.

ابتسمت وشكرته ورجعت الى ما كنت عليه قبل اختياره لي تولي عمل السكرتير الخاص له وللقسم.. قسم التحرير.

بعد فترة وجيزة بدأت الفكرة التي حركتها عليه تأخذ شكل التنفيذ، وبالفعل جمعنا سيادة وكيل عام المصلحة واطلعنا على اقتراح سيادة المفتش، وان وزارة الداخلية مسرورة جدا بهذا الاقتراح. وسوف يبدأ العمل بهذه المسابقة بين المناطق الأربع لقسم التحرير من الغد..

اتذكر جيداً عدد الاستمارات الموجودة في المنطقة الاولى المسؤول عنها 105,000 استمارة وعدد الموظفين 15 موظفاً. زدّ على ذلك اشرافي على المنطقة الرابعة وهي اصغر المناطق بالقسم.

الحق يقال لقد بذل الموطفون قصارى جهدهم.. بل اشهد أن الحاج عبد الحليم كان يأخذ العمل معه الى المنزل وتشترك الاسرة كلها معه في انجاز أكبر عدد ممكن. انتهى الشهر وكان الموظف الاول والثالث من عندي، من المنطقة الاولى، والثاني من المنطقة الثانية التي يترأسها فاروق عطوه. اجتمع بنا المفتش نحن رؤساء المناطق ومعنا المشرف العام الاستاذ فريد طموم.

بعد الانتهاء من تحديد الأوائل الثلاثة من الموظفين جاء دور تحديد الأول من رؤساء المناطق. فوجئت بالمفتش يقول ان فاروق عطوه هو الأول. وجدت نفسي دون أن أدري اضرب بكف يدي، وبقوة، فوق مكتب المفتش معترضا على قراره قائلا له أن الأول هو أنا.. لأن عدد الاستمارات المتبقية من المنطقة الأولى وحدها 3 آلاف استمارة. ساد المكان صمت مفاجيء، نظر إليّ المفتش وهو يقوم بتلك الحركة المعروفة عنه عندما يكون منهمكاً في التفكير. او يريد اتخاذ قرار. بعد فترة وجيزة قال:

- عندك حق.. انت الأول لأن المنطقة الرابعة معك ايضا..

- لا. ليس لهذا السبب فقط.. الموظف الاول والثالث في المسابقة من عندي. وعدد الموظفين والعمل اكثر عندي من اي منطقة اخرى. انا لا اريد الجائزة.. وانما أريد حقي فقط.

«ترى.. لو كنت مازلت في مصر.. هل كنت استطيع الأعتراض؟ ام كانت تلفق لي تهم ويلقون بي في السجن؟. لا تقولوا لي انه كان عهد عبد الناصر.. لأنني ايضاً في عهده ذقت الأمرين كما قرأتم وما ستقرأون..

انفض الجميع وبعدها بأسبوع جاء سيادة وكيل عام المصلحة العميد أنور حبيب، ووزع علينا الجوائز، وكانت عبارة عن مبلغ عشرة جنيهات لكل فائز. وقد دفعتها ثمنا لصور أخذت لنا.

في أقل من شهر تمّ نقلنا، المفتش ونحن الذين معه من قسم التحرير الى قسم الوثائق لانجاز العمل المتراكم في القسم.

بقي شيءواحد اتذكره ان المفتش رئيس قسم الوثائق السابق كان شقيقا لأحد الوزراء في عهد جمال عبد الناصر معبود الجماهير..

(يتبع)

ليست هناك تعليقات: