الخميس، ديسمبر 10، 2009

عن الإسلاميين والعلمانيين العرب 2

صبحي غندور
التمييز المطلوب في الجماعات "الإسلامية" و"العلمانية" العربية

هناك حاجة للتوافق المبدئي بين مختلف الاتجاهات الفكرية العربية على ضرورة الفرز والتمييز بين الجماعات التي تعمل تحت لواء أيَّة نظرية فكرية. فليس هناك مفهوم واحد لهذه النظريات حتى داخل المعتقدين بها بشكل عام، ثم ليس هناك برنامج سياسي أو تطبيقي واحد حتى بين الجماعات والحركات التي تتفق على مفهوم واحد. هذا الأمر ينطبق على الجماعات "العلمانية" و"الإسلامية" كما على أتباع النظريات الشيوعية والرأسمالية، وعلى "المحافظين" والليبراليين" في العالم كلّه. كذلك صحّت هذه الخلاصة على التجارب القومية العربية، ومنها "الناصرية" و"البعث" وغيرهما، حيث غابت وحدة المفاهيم الفكرية والحركية عن هذه التجارب.

إذن، الموضوعية تفرض عدم وضع الجماعات الإسلامية كلّها في سلّةٍ واحدة (فكراً وممارسة)، كذلك بالنسبة للقوى العلمانية.. وبالتالي عدم استخدام التعميم في التعامل مع أيَّة حالة.

هناك عدة عوامل ساهمت، منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، بتنشيط التيّار الديني الإسلامي في المنطقة العربية، منها: هزيمة 1967، موت جمال عبد الناصر، ثورة إيران، استخدام حكومات عربية لجماعاتٍ إسلامية من أجل دعم أنظمتها كما فعل أنور السادات في مصر وجعفر النميري في السودان، الطرح الديني في أوروبا الشرقية ضدَّ الهيمنة السوفييتية، حرب "المجاهدين" ضدَّ الشيوعية في أفغانستان، استخدام الطروحات الدينية بالمعارك السياسية خلال فترة الحرب الباردة، فشل أنظمة الحركات القومية بالمنطقة العربية في غير الدائرة المصرية الناصرية.

لكن من الناحية الفكرية لم تكن غالبية هذه الجماعات الإسلامية ناضجة في مشروعها الفكري والسياسي ولم تضع تصوّراً لكيفية الحكم سياسياً واقتصادياً. أمّا من الناحية التنظيمية، فكان قسم كبير منها يسير على صيغة "أمير الجماعة" وعلى مفهوم توارث "الخلافة الإسلامية".. كذلك ساد عدم وضوح المفاهيم حول كيفية بناء المجتمع والدولة وصيغة الحكم، وأيضاً لكيفية العلاقة مع الآخر العربي غير المسلم أو المسلم "غير الإسلامي"، ولا اتّسمت بالوضوح أيضاً العلاقة مع الديمقراطية، ولا الدور المميّز للثقافة العربية والعروبة في الحضارة الإسلامية..

نجد أيضاً في التيَّار الديني الإسلامي اتجاهات تؤكّد على التكامل بين العروبة والإسلام، وعلى الانسجام بين الديمقراطية والفكر الإسلامي، وعلى رفض استخدام العنف في الدعوة ووسائل التغيير، بل تحرِّم استخدام العنف في ذلك. وهي قوى تريد تغيير المجتمع أولاً، بينما تريد قوى أخرى الوصول للسلطة أولاً.

***

أمّا الطروحات العلمانية فقد انتشرت ببعض البلاد العربية في ظلِّ الظروف التالية:

(1) الدخول الثقافي الأوروبي للمنطقة العربية بواسطة إرساليات تبشيرية أو تحت شعار "حماية أقليات دينية" رغم وجود العلمانية في أوروبا!.

(2) المواجهة الغربية "العلمانية" مع الدولة العثمانية "الإسلامية"، والسعي للسيطرة على المنطقة بعدما فشلت الحملات الأوروبية باسم (الحملات الصليبية) حين كان "رجل الدين" في أوروبا هو الحاكم!.

(3) محاولة الاحتواء الثقافي الغربي للعرب، من خلال التشجيع على التغريب الثقافي والدعوة للابتعاد عن الدين باسم العلمانية، وعن الهُوية الثقافية العربية باسم الهُويات الوطنية الجديدة والإصول الحضارية القديمة، كما حدث في تركيا حينما أخذت بالنظام العلماني واستبدلت أحرف لغتها العربية بالأحرف اللاتينية.

(4) تأسيس الأحزاب الشيوعية العربية ذات الطبيعة اللادينية.



ولقد ظهرت عدّة حركات علمانية عربية في النصف الأول من القرن العشرين، إمَّا من خلفية ثقافية غربية متأثرة بالفكر الأوروبي السائد آنذاك، أو من أجل خدمة طروحات الغرب في المنطقة العربية.. أو من خلفية ثقافية شيوعية معادية للدين والقومية عموماً.

لكن من الضروري أيضاً التفريق بين دعاة العلمانية وعدم وضعهم جميعاً في خانة واحدة، فهناك علمانيون يؤكّدون على دور الدين في المجتمع ويدعون للمجتمع المدني ولحقوق المواطنة للجميع دون ابتعاد عن القيم الدينية.

***

إن الإسلام، حسب اجتهادي، هو "دين وضوابط مجتمع"، ولا يجب الفصل بين الدين والمجتمع لكنّ يتوجّب الفصل بين الدين ومؤسسات الدولة، إذ المعروف أنَّ أساليب الحكم ومفاهيم الدولة قد اختلفت إسلامياً من حقبةٍ لأخرى، حتى في سياقها التاريخي منذ بدء الدعوة ثم في فترة الخلفاء الراشدين، ثمّ ما جرى بعد ذلك من حكم عائلي متوارث تحت مظلّة "الخلافة الإسلامية" وصراعات بين حقبة وأخرى، واختلاف في المفاهيم وصيغ الحكم ومرجعياته.

إنّ بإمكان المجتمع العربي الاستفادة فعلاً من التجربة "العلمانية الأميركية"، لكن الأهم هو طرح "العقلانية الدينية" في المجال الفكري والثقافي، والانطلاق من العقل لفهم النصوص، واعتماد المرجعية الشعبية في الوصول للحكم وفي أعمال المؤسسات التشريعية المنتخبة، وأيضاً بإلغاء الطائفية السياسية في بعض أنظمة الحكم (كالحالة اللبنانية مثلاً)، أي عدم اشتراط التبعية لدين أو مذهب أو أصول أثنية في أيّ موقع من مواقع الحكم ووظائف الدولة، مع اعتماد النهج الديمقراطي في مؤسسات الحكم وفي الوصول إليها، وبتحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين (بما في ذلك المساواة بين المرأة والرجل) في الحقوق والواجبات.

إنّ المنطقة العربية هي مهد كل الرسالات السماوية والأنبياء ومواقع الحج الديني، وبالتالي فإن تغييب أو تهميش دور الدين فيها هو مسألة مستحيلة عملياً.

إن فصل الدين عن المجتمع لم يحصل في أيّ أمَّة إلا بفعل القوة (مثال نموذج تجارب الأنظمة الشيوعية). أما "فصل الدين عن الدولة" في الأنظمة الغربية فكان نسبياً، فهو في فرنسا فصل كامل في السلوك السياسي والشخصي للحاكمين.. وهو في أميركا فصل فقط بالسلوك السياسي.. ويختلف في بريطانيا عن النموذجين الفرنسي والأميركي.. وهناك في إيطاليا، وفي بعض دول أوروبا الأخرى، أحزاب سياسية قائمة على أساس ديني (الحزب الديمقراطي المسيحي).

أمّا في يوغوسلافيا فلم ينجح الحكم العلماني الشيوعي (لأكثر من نصف قرن) في إزالة العصبيات الدينية حتّى بين الكاثوليك والأرثوذوكس!.

إن معالجة مشاكل العنف باسم الدين ليس حلّها بالابتعاد عن الدين بدلالة ظهور حركات العنف في أميركا وأوروبا على أساس ديني رغم وجود الأنظمة العلمانية.

فالعلمانية وحدها هي ليست الحل لمشاكل المجتمع العربي!

ولقد شهدت بعض البلاد العربية والإسلامية تجارب لأنظمة حكم علمانية لكن بمعزل عن الديمقراطية السياسية في الحكم، والعدالة في المجتمع، فلم تفلح هذه التجارب في حلّ مشاكل دولها كنظام بورقيبة في تونس، والنظام العلماني لشاه إيران، وتجربة الحكم الشيوعي في عدن الذي انتهى بصراعات قبائلية بين الحاكمين.

وهذه التجارب لم تحلّ مشكلة غياب الديمقراطية.. ولم تحلّ مشكلة الأقليات.. ولم تحلّ المشاكل الاقتصادية.. ولم تحلّ مشكلة الحكم بالوراثة أو بالقوة العسكرية.. ولم تحقّق التقدّم والعدالة الاجتماعية لشعوبها.

إن المجتمع العربي بحاجة إلى إصلاحات فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية.. وهذه الإصلاحات لا تتناقض مع القيم الدينية ولا تتعارض مع المفاهيم الإنسانية المعاصرة، وفي ذلك مسؤولية مشتركة لقوى "علمانية" و"إسلامية" تختلف فكرياً لكنّها قد تشترك في برنامج نهضوي جديد تحتاجه الأمَّة العربية كلّها.

ليست هناك تعليقات: