الجمعة، أكتوبر 05، 2007

رؤية" بوش: احتلال العراق مقابل "وعد" بدويلة فلسطينية

نقولا ناصر
(
واشنطن تسعى لانتزاع موافقة عربية على مبادلة إنجاح احتلالها للعراق بوعد يعادل الوهم بإقامة دويلة فلسطينية)

(تاريخ تقسيم فلسطين يكاد يكرر نفسه في العراق)

(كان لوحدة النضال القومي مركز واحد هو فلسطين وقد أصبح له بعد احتلال العراق مركزان)

(أصبحت المقاومة العراقية هي العامل الحاسم الذي يقرر مصير عدالة "عملية السلام" الفلسطينية الإسرائيلية)


في خضم الصخب الإعلامي حول "مؤتمر الخريف" الذي اقترحه الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش في 16 تموز / يوليو الماضي لإحياء عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية تغيب حقيقة أن هذا المؤتمر قد اقترحه بوش أصلا ك"جزرة" لإغراء الدول العربية التي يصفها ب"المعتدلة" بالدخول في جبهة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد ما وصفه ب"محور الشر" الإيراني – السوري الذي يحمله مسؤولية فشل مشروع الاحتلال الأميركي للعراق في قطف الثمار السياسية والنفطية للنجاح الأولي الذي أحرزه غزوه العسكري عام 2003 ، مما يلخص "رؤيته" لحل الدواتين للصراع العربي الإسرائيلي في عرض صريح لمبادلة احتلال العراق ب"وعد" مبهم بإقامة دويلة فلسطينية .

ويجري اليوم سياسيا وإعلاميا ، إسرائيليا وأميركيا وعربيا ، طمس موضوعين أولهما الدور الإسرائيلي في الاحتلال الأميركي للعراق وثانيهما الصلة القومية العضوية الوثيقة للنضال الوطني في كل من العراق وفلسطين بينما يتم تركيز الأضواء على "رؤية" بوش ل"حل الدولتين" للصراع العربي الإسرائيلي ، في إغفال كامل للأراضي السورية المحتلة في الجولان ، المفتاح الآخر لأي تسوية سلمية لهذا الصراع ، وفي تعتيم كامل على الجهود الأميركية – الإسرائيلية الحثيثة لانتزاع موافقة عربية صريحة أو ضمنية على مبادلة إنجاح مشروع احتلال العراق بوعد يعادل الوهم بإقامة دويلة فلسطينية ، وعد عجز بوش عن تحقيقه طوال سبع سنوات من ولايتيه ويريد من العرب أن يصدقوه بأنه يستطيع تحقيقه خلال السنة الأخيرة من ولايته الثانية .

ويتركز الحراك الأميركي الدبلوماسي لإنجاح هذه المبادلة الأميركية المقترحة على الاجتماع الدولي الذي اقترح بوش في 16 تموز / يوليو الماضي عقده في خريف العام الحالي ، وهو اجتماع يحذر الجميع تقريبا من عواقب فشله الذي يهدد باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة تجرف في طريقها سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية ومعها ما تبقى على الأرض من اتفاقيات أوسلو الفلسطينية الإسرائيلية التي انبثقت هذه السلطة عنها ، في وقت تسعى واشنطن وتل أبيب إلى تهدئة الجبهة الفلسطينية لكي تتفرغا لاستكمال حصار سورية بحسم ازدواجية السلطة في لبنان لصالحها من ناحية ، وبتوفير تسهيلات عربية تضمن النظام الذي يسعى الحليفان الاستراتيجيان إلى إقامته في بغداد من ناحية ثانية ، تمهيدا لحسم مواجهتهما مع إيران حول برنامجها النووي الذي يهدد إن نجحت طهران فيه إما بمنافسة هيمنتهما على المنطقة أو بتقاسم النفوذ الإقليمي معهما .

وقد صرحت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الأسبوع الماضي أن "الفشل ليس خيارا" لاجتماع الخريف ، في تعليق مباشر على تحذيرات عربية لا تتوقف من عواقب فشله ، وفي مقدمتها تحذير الرئيس الفلسطيني محمود عباس والعاهل الأردني عبد الله الثاني الذي اعتبره "الفرصة الأخيرة" للسلام ومثلهما حذر الرئيس المصري حسني مبارك وصدرت آخر هذه التحذيرات في الأسبوع الماضي من وزراء خارجية مصر والعربية السعودية والأردن . وقد انضم إلى هذه التحذيرات وزير العدل الإسرائيلي السابق وزعيم حزب ميريتس ، يوسي بيلين ، بقوله لرئيس الوزراء إيهود أولمرت يوم الاثنين الماضي: "إذا فشلت فإنها ستكون نهاية العالم" لأن الفشل سيشعل جولة أخرى من العنف .

وهذا الحرص الأميركي على تهدئة الجبهة الفلسطينية وعلى عدم اعتبار الفشل خيارا لاجتماع الخريف قد يفسر تردد إسرائيل في شن عدوان عسكري واسع النطاق على قطاع غزة وهي عملية لا يترك وزير "الدفاع" الإسرائيلي إيهود باراك مناسبة إلا ويهدد بشنها لإعادة احتلال القطاع أو الأجزاء منه التي تضمن إسقاط حكومة حماس ثم تسليم القطاع لسلطة الحكم الذاتي برعاية قوات متعددة الجنسيات .

ويجد العرب أنفسهم في ذات الموقف الذي وجدوا أنفسهم فيه منذ نجح الاستعمار الأوروبي في إنشاء دولة يهودية في القلب من وطنهم التاريخي الكبير ، أي محشورين بين التوسع الإقليمي لهذه الدولة وبين الهيمنة الإقليمية للولايات المتحدة الأميركية التي ورثت من الاستعمارين البريطاني والفرنسي هيمنتهما الإقليمية وكذلك مهمة ضمان أمن هذه الدولة بغض النظر عن الحدود التي يقف عندها جيشها ، ومخيرين بين الرضوخ للشروط السياسية والعسكرية للتحالف الاستراتيجي الأميركي – الإسرائيلي وبين مواجهة القوة الساحقة لهذا التحالف إن هم رفضوا شروطه ، ومرتهنين لخيار اللجوء إلى أحد طرفي هذا التحالف للتوسط لهم لدى الطرف الآخر كي يخفف من وطأة شروطه بحيث باتوا كمن يستجير من الرمضاء بالنار يدورون في حلقة مفرغة بين الطرفين لم تمنحهم ، لا مجتمعين ولا منفردين ، لا أمنا ولا سلاما ولا استقرارا ، ولا ردت عنهم عدوانا ولا منعت عنهم احتلالا .

ويدرك هذه الحلقة المفرغة كل الدبلوماسيين العرب ، فالنصيحة الأولى التي يقدمها لهم نظراؤهم الأميركيون هي أن عليهم اللجوء إلى جماعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة لتساعدهم فيما يريدون الحصول عليه من الإدارات الأميركية ، وهذه الجماعات بدورها تنصحهم بالتفاهم مع إسرائيل أولا إن هم أرادوها أن تساعدهم ، لتنصحهم إسرائيل بدورها بتسهيل المصالح الأميركية الإقليمية أولا ، وفي مقدمة المصالح الأميركية طبعا ضمان أمن إسرائيل ، وهكذا دواليك .

وقد أوصل العجز العربي عن كسر هذه الحلقة المفرغة صلف القوة الأميركي – الإسرائيلي إلى الوضع الراهن الذي تعرض واشنطن على العرب فيه عرضا مهينا يخيرهم بين القبول بالاحتلال الأميركي للعراق وبين وضع حد للتوسع الإقليمي للاحتلال الإسرائيلي يضمن لدولة الاحتلال الاحتفاظ بمكاسبها الإقليمية التي أحرزتها بالعدوان المسلح خلافا للقانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة ، حدا يتم التفاوض عليه ثنائيا مع إسرائيل ، بينما يقتصر الدور الأميركي على التوسط لدى حليفها الاستراتيجي لإقناعه بالتفاوض .

وكان الحصاد العربي من الدوران في هذه الحلقة المفرغة تدمير إمكانية تطوير جامعة الدول العربية إلى نظام إقليمي فعال وتحطيم الحد الأدنى لأي تضامن عربي واستنزاف الثروات العربية ، النفطية خصوصا ، بإعادة تدويرها وتعطيل التنمية العربية وانكفاء الأنظمة القطرية العربية على نفسها إقليميا حد التنصل تماما من أي مسؤوليات قومية تجاه بعضها البعض حتى باتت ممالأة الاحتلال الأجنبي للأقطار التي ما زالت توصف ب"الشقيقة" أمرا مقبولا لديها ، وها هي هذه الأنظمة اليوم لا تجد أي حرج في التعامل مع العرض الأميركي المهين لمبادلة موافقتها على احتفاظ واشنطن بمكاسب غزوها العسكري للعراق بمساعدة واشنطن لها في الحد من التوسع الإقليمي للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين عبر الاجتماع الخريفي الذي اقترحه بوش .

فلسطين والعراق: صلة مطلوبة وأخرى محظورة

ويدور في أوساط صنع القرار الأميركية جدل حول وجود أو عدم وجود صلة بين الاحتلال الأميركي للعراق وبين تسوية الصراع العربي الإسرائيلي سلميا وبخاصة منذ اعترف الحزبان اللذان يتداولان الحكم في واشنطن علنا ولأول مرة بصفة شبه رسمية عبر "مجموعة دراسة العراق" المشتركة ، في تقرير جيمس بيكر – لي هاملتون أواخر العام الماضي ، بأن القضيتين متصلتين "اتصالا لا فكاك منه" ، بينما تبذل الإدارات الأميركية المتعاقبة قصارى جهودها لقطع أي صلة يمكنها أن توحد النضال الوطني لعرب فلسطين والعراق ضد القوتين المحتلتين المتحالفتين استراتيجيا وتكتيكيا ، عسكريا وسياسيا واقتصاديا .

واللافت للنظر أن الإدارة الأميركية تكرر رسميا نفيها لأي صلة بين أهدافها في العراق وفي إيران وبين أهدافها في الصراع العربي الإسرائيلي في حراكها الدبلوماسي الراهن الذي تقوده عربيا وفلسطينيا وهذا نفي متكرر ينطبق عليه المثل العربي القائل "يكاد المريب يقول خذوني" ! وصدر أحدث نفي أميركي لوجود صلة بين مسعى واشنطن لتأمين الاستقرار للنظام الذي يسعى احتلالها إلى إقامته في بغداد وبين مسعاها إلى التوصل إلى حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي في لقاء الخريف الدولي على لسان مستشار الأمن القومي ستيفن هادلي في الأسبوع قبل الماضي عندما أصر على أن إدارته تواصل المسعيين "بشكل منفصل وكلا على حدة" .

لكن كوندوليزا رايس اضطرت إلى الاعتراف بأن كل القضايا الإقليمية "جميعها أجزاء من كل ... إحداها تشجع الأخرى وتعززها" ، مع أن الصراع العربي الإسرائيلي "بحاجة إلى الحل لأسباب خاصة به ، فقد استمر لفترة طويلة في الواقع" ، كما قالت في 20 الجاري عندما طلب منها مراسل مجلة "تايم" بريان بينيت أن تتحدث عن جهودها الدبلوماسية مع الفلسطينيين والإسرائيليين "في إطار العراق" . وعلى المستوى الأميركي الشعبي أدركت الحركات المناهضة للحرب أهمية وضرورة "التركيز بصورة واضحة على الصلة التي لا يمكن فصمها بين العراق وبين فلسطين" ، كما قالت هذه الحركات في نداء لها من أجل الوحدة في 13 الشهر الماضي .

أما على المستوى الشعبي العربي والإسلامي في الوقت الراهن فقد لخص الموقف غسان الخطيب ، الوزير السابق في سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني ، في مقال له العام الماضي بعنوان "متصلان في الحلول لهما" بقوله: "سواء أحب ذلك أو لم يحبه الشعب في فلسطين أو في العراق أو في غيرهما فإن الفهم السائد في المنطقة هو أن هناك صلة بين العراق وبين فلسطين" . وتاريخيا كانت هذه الصلة عريقة في العلاقة الوثيقة بين قادة النضال الوطني الفلسطيني من أمثال الحسينيين الحاج أمين وعبد القادر قبل أن ينجح المشروع الصهيوني في إقامة دولته عام 1948 .

وكان إقرار مجلس الشيوخ الأميركي في 26 الشهر الجاري بأغلبية 75 – 23 صوتا لتعديل على مشروع قانون الميزانية العسكرية في العراق وأفغانستان لعام 2008 المقبل يفوض الحكومة الأميركية ب"تشجيع" العراقيين على تقسيم وطنهم إلى ثلاث دول تتحد "فدراليا" بحجة أن التقسيم هو "الحل" الوحيد للصراعات الأهلية هو المثال الأحدث على الصلة العضوية الوثيقة بين ما حدث ويحدث في فلسطين وبين ما يجري في العراق .

فقد كان "الصراع الأهلي" بين المقاومين الوطنيين لاحتلال فلسطين وبين المليشيات شبه العسكرية للمستوطنين الغزاة الأجانب هو الذريعة التي استخدمها المحتلون البريطانيون كمدخل لتقسيم فلسطين بقرار رقم 181 لعام 1947 الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتباره الحل الوحيد لذاك الصراع الأهلي وكمدخل للوفاء البريطاني ب"وعد بلفور" أضفى "شرعية دولية" على احتلال جزء من فلسطين تحول عبر التقسيم إلى دولة سرعان ما بادرت بعد أن تمكنت إلى احتلال الجزء الآخر عام 1967 .

في 27 الشهر الماضي كتب رايدر فيسر ، الباحث في معهد الشؤون الدولية النرويجي ومؤلف كتابين صدرا عن العراق في عامي 2005 و 2007 ، يقول تعليقا على القرار غير الملزم الذي أصدره مجلس الشيوخ الأميركي حول تقسيم العراق إن العرب والمسلمين حول العالم سوف يتذكرون السناتور جو بايدن ، إذا قيض للقرار الذي اقترحه أن يرى النور ، باعتباره يقف إلى جانب "شخصيات تاريخية أخرى يتهمها الشرق أوسطيون بشكل روتيني بأنها دمرت منطقتهم بالكامل: آرثور بلفور ومارك سايكس وفرانسوا جورج-بيكو" .

وها هو التاريخ الفلسطيني يكاد يكرر نفسه في العراق تقريبا بالسيناريو نفسه وبالذريعة ذاتها وبحل التقسيم إياه وتكاد تكون ردود الفعل العراقية والعربية المستنكرة والرافضة لفظا ، , وإن صدقت النوايا ، هي نفسها كذلك مع فارق بسيط هو أن الإرادة القومية الشعبية للأمة فرضت على أنظمتها الحاكمة عام 1948 أن تقرن رفضها اللفظي للتقسيم بالفعل العسكري ، غير أن هذه الإرادة اليوم ضعيفة أمام الدولة القطرية القوية حد الاستئساد على شعوبها في الداخل لكنها عاجزة تماما عن درء أية مخاطر خارجية سواء على الوطن القطري أو على الوطن القومي بحيث لا تقوى حتى الحيلولة دون حكامها وتسهيل مهمة الاحتلال في العراق إن طوعا أو كرها .

إن الرد المجدي الفعال الوحيد على خطط تقسيم العراق يكمن في وحدة النضال القومي العربي والإسلامي ، رسميا بتعزيز التضامن القومي بين دول التجزئة ، وهذا أضعف الإيمان ، وشعبيا بتوثيق الصلات النضالية العضوية بين حركات المقاومة الوطنية والعربية والإسلامية ، خصوصا في العراق وفلسطين ولبنان . في عام 1948 اتضحت وحدة النضال القومي من أجل الاستقلال والتحرر بين فلسطين وعمقها الجيوبوليتيكي برضوخ سبع دول أعضاء في جامعة الدول العربية كانت تخضع مباشرة ل"انتداب" الاستعمارين البريطاني والفرنسي للإرادة القومية لشعوبها التي فرضت عليها المشاركة في الحرب ذلك العام ، إدراكا من الجميع بأن احتلال فلسطين هو المدخل لإخضاع الأمة في وطنها الكبير للهيمنة الأميركية الإسرائيلية كما أثبت التوسع الإقليمي الإسرائيلي لاحقا خصوصا بعد عدوان عام 1967 وكما أثبتت التضحيات القومية الجسيمة وبخاصة المصرية والسورية والأردنية والعراقية واللبنانية .

رفض "وطني" لوحدة النضال القومي

والمفارقة أن الأنظمة العربية الرسمية -- ولا نقول النظام العربي الرسمي الذي حرص الحلف الإستراتيجي الأميركي الإسرائيلي على أن لا يبقى له أي وجود غير الوجود الشكلي لجامعة الدول العربية بانتظار استبدالها بمنظومة إقليمية تكون إسرائيل عمودها الفقري – تخشى مضاعفات وحدة النضال القومي بين القطرين العربيين المحتلين على استقرارها بقدر ما يخشى الحليفان من هذه المضاعفات على فرص نجاح خططهما لإعادة رسم خريطة المنطقة مما يجعل هذه الأنظمة فريسة سهلة لاستغلال الحليفين لمخاوفها من أجل استثمار هذه المخاوف لمنع تطوير حتى حد أدنى من التنسيق بين المقاومين للاحتلال في القطرين .

غير أنه لا يمكن إغفال العوامل الذاتية للمقاومة الوطنية في كل من العراق وفلسطين التي تجعل مهمة توحيد نضالهما القومي أكثر صعوبة .

ويجري اليوم سياسيا وإعلاميا طمس موضوعين أولهما الدور الإسرائيلي في الاحتلال الأميركي للعراق وثانيهما الصلة العضوية الموضوعية الوثيقة للنضال الوطني في كل من العراق وفلسطين . وإذا كانت الإدارة الأميركية قد قررت التعتيم على دور حليفها الإسرائيلي في احتلال العراق حتى تحتوي أي مضاعفات سلبية قد تترتب على إظهار هذا الدور على أي دعم عربي وإسلامي ، سلبا بالامتناع عن مقاومته أو إيجابا بتسهيله طوعا أو كرها ، فإن منظمة التحرير الفلسطينية قد قررت واعية فك ارتباطها بحركة التحرر الوطني العربية ودأبت على التنصل من أي علاقة لها مع قواها الشعبية والرسمية على حد سواء رافعة شعار "القرار الوطني المستقل" ، خصوصا منذ تبنت "وثيقة إعلان الاستقلال" عام 1988 كمدخل للتصالح مع دولة المشروع الصهيوني عبر التحالف مع الدول التي رعت هذا المشروع .

إن الجدل الساخن الدائر حاليا حول جدوى اجتماع الخريف الذي اقترحه بوش أو عدم جدواه يغطي على حقيقة يكاد يُغيٌبها هذا الجدل وهي أن الهدف الرئيسي لاقتراحه هو إغراء دول عربية بوهم إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967 لجرٌها في مقابل ذلك إلى الانخراط في "جبهة" تضم "المعتدلين العرب" ، ومنهم طبعا منظمة التحرير ، ودولة الاحتلال الإسرائيلي ، جبهة تساهم من ناحية في ترسيخ نظام موال لواشنطن في بغداد وتدعم إدارة بوش من ناحية أخرى في تحييد النفوذ الإيراني الإقليمي الذي توسع بقوة تحت مظلة الاحتلالين الأميركي والإسرائيلي ، مما يسلط الأضواء مجددا على حقيقة العلاقة الوثيقة بين الاحتلالين وبين المقاومتين الفلسطينية والعراقية للقوتين المحتلين اللتين يزيد عمر تحالفهما الاستراتيجي على ستة عقود من الزمن .

وهذا التوجه الشاذ عن أي منطق سليم للتحالفات السياسية الفلسطينية يسلط الأضواء على مفارقتين الأولى تتمثل في دفع منظمة التحرير إلى الاصطفاف مع قوى محتلة بحجة التحرر من الاحتلال العسكري لهذه القوى ذاتها ضد المقاومة العراقية بينما المنظمة نفسها تعلن كونها حركة مُقاومة لهذه القوى نفسها . ويلفت النظر في هذا السياق الصمت الفلسطيني المطبق عن إدانة الاحتلال الأميركي للعراق وكذلك عن أي تضامن مع المقاومة العراقية من قبل قيادة أخذت على القيادة السابقة لها صمتا مماثلا إبان الاجتياح العراقي للكويت عام 1990 .

وهذا يقود إلى المفارقة الثانية التي تتمثل في سعي القوى المحتلة الإسرائيلية والأميركية إلى توحيد قواها وتعزيزها بينما تختار منظمة التحرير واعية تفادي أي وحدة نضالية مع حركات مقاومة هي حليف طبيعي لها سواء في العراق أو في لبنان أو في غيرهما ، مما يثير أسئلة جادة حول ما إذا كانت المنظمة ما تزال تقود حركة تحرر وطني مُقاومة حقا للاحتلال ، أو في الأقل يثير أسئلة صعبة حول ماهية هذه المقاومة .

إن المقاومة الباسلة الناجحة للاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982 ثم الأميركي للعراق منذ عام 2003 والعدوان الإسرائيلي على لبنان العام المنصرم قد كشفت وما تزال حقيقة أن التحالفات الفلسطينية الراهنة لن تقود إلا إلى نتائج عكسية ، بعد أن كشفت حقيقة أن الشعوب قد عوضت بالمقاومة الخيار العسكري العربي الذي انهار عام 1967 وخلقت للعمق العراقي ل"الجبهة الشرقية" التي انهارت بدورها بعد الغزو الأميركي عام 2003 بديلا يُسقط كل الذرائع التي تتذرع منظمة التحرير بها كسبب رئيسي لفك ارتباطها بحركة التحرر الوطني العربية التي كانت في المقام الأول الرافعة الأساسية لظهورها إلى حيز الوجود ، كما كانت هي بدورها رافعة لحركات التحرر الوطني عربيا وعالميا وهذا دور تخلت عنه المنظمة طواعية ومجانا بعد أن أكسبها اعتراف عدد من الدول يفوق عدد الدول المعترفة بدولة الاحتلال !

لقد كان لوحدة النضال القومي مركز واحد هو فلسطين وقد أصبح له بعد احتلال العراق مركزان تسعى القوى المحتلة المتحالفة استراتيجيا جاهدة إلى الحيلولة دون حتى الحد الأدنى من التنسيق بينهما وهذه القوى تجد في اصطفاف منظمة التحرير إلى جانبها بحجة أن تظل بعيدة عن "شبهة الإرهاب" خير معين لها في مسعاها الناجح حتى الآن . لقد أصبحت المقاومة العراقية هي العامل الحاسم الذي يقرر مصير عدالة "عملية السلام" الفلسطينية الإسرائيلية فنجاحها سيقلب موازين القوى بحيث تتغير شروط التفاوض الراهنة إلى شروط قد تسمح بسلام عادل إن جنحت دولة الاحتلال حقا إلى السلم وإلا فإنه الاستسلام حسب الشروط الحالية التي تجري المفاوضات على أساسها .

إن الصلة التي تريدها واشنطن وتل أبيب بين العراق وبين فلسطين تسعى تحديدا إلى حظر وحدة النضال القومي بين القطرين بانتزاع مبادلة الموافقة العربية على احتلال العراق وما يتمخض عنه من نظام سياسي بوعد مبهم يعادل الوهم بإقامة دويلة فلسطينية على جزيء من فلسطين بشروط تضمن أمن الدولة المحتلة للجزء الأكبر منها .

nicolanasser@yahoo.com * كاتب عربي من فلسطين -

ليست هناك تعليقات: