الأحد، أكتوبر 28، 2007

المفاوض الفلسطيني محاصر على الخطوط الحمراء


نقولا ناصر

ربما يأتي الكتاب الجديد ، "أسد الأردن" ، للبروفسور الإسرائيلي أفي شليم ، أستاذ العلاقات الخارجية في كلية سانت انتوني بجامعة أكسفورد "أسد الأردن" ، الذي ينتمي لمدرسة المؤرخين الإسرائيليين الجدد إصدارا جديدا في حينه ليثبت للمفاوض الفلسطيني عقم أي مفاوضات سلام مع إسرائيل ، إذ ما تزال المنطقة تعاني من آثار الغدر الإسرائيلي بداعية سلام مخضرم مثل العاهل الأردني الراحل الحسين بن طلال ، الذي أنفق أكثر من ألف ساعة من المفاوضات مع الإسرائيليين منذ عام 1963 لكي يحصد هو وبلاده والمنطقة الحصاد المر الذي يمزق أهل المنطقة حاليا .

ويقف المفاوض الفلسطيني اليوم على الخطوط الحمراء لثوابته الوطنية محاصرا بين الضغط الخارجي لاستحقاقات المؤتمر الأميركي المقترح قبل نهاية العام الحالي – الذي قال رئيس "مركز أبحاث الأمن القومي" في جامعة حيفا الإسرائيلية البروفيسور دان شيفطان في مقال نشره في صحيفة "هارتس" يوم الخميس الماضي إنه "قضية أميركية إسرائيلية بحتة لا دخل للفلسطينيين فيها" -- وبين الضغط الداخلي للمؤتمر الوطني المقرر عقده في دمشق أوائل الشهر المقبل الذي تقول القيادة الفلسطينية إنه غير شرعي ويعمق الانقسام الوطني .

ويكاد يجمع "المسالمون" و"الممانعون" العرب ، وفي مقدمتهم الفلسطينيون وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس ، على أن الاجتماع الدولي الذي تسعى واشنطن لاستضافته قبل نهاية العام الحالي هو "الفرصة الأخيرة" لإحياء عملية السلام العربية الإسرائيلية بدءا من استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ، ويتفق معهم في هذا التقويم قادة عرب كان أولهم العاهل الأردني عبد الله الثاني وقادة أجانب كان آخرهم رئيسة فنلندا تارجا هالونين .

لكن المؤيدين لعقد هذا الاجتماع والمعارضين له ، خصوصا بين العرب ، منقسمون انقساما حادا حول تقويم النتائج المتوقعة من عقده ، وفي الأوساط الفلسطينية على الأخص يعتبر المعارضون للمشاركة فيه مجرد الذهاب إليه جنوحا نحو تجاوز الخطوط الحمر للثوابت الوطنية ، لذلك تداعوا إلى عقد مؤتمر معارض له في دمشق يومي 7 و8 الشهر المقبل .

وتدافع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن قرارها بالمشاركة بحجج عديدة ، منها أن هناك نافذة فرصة أميركية مفتوحة ينبغي استثمارها ، وأن "موقف فتح والسلطة الوطنية" كان يطالب "منذ فترة طويلة بضرورة عقد مؤتمر دولي للسلام" وليس من المنطقي أن يرفض الفرصة المتاحة لذلك الآن بعد "أن جاءت دعوة الرئيس الأميركي جورج بوش" كما قال أحمد قريع مفوض التعبئة والتنظيم في حركة فتح ورئيس الوفد الفلسطيني المفاوض لاجتماع حركي لنخبة فتح طبقا لبيان الإعلام المركزي لحركة فتح في 18 الجاري .

وتحتج القيادة أيضا بأنه لا يوجد أي بديل للمبادرة الأميركية للدعوة إلى الاجتماع في أنابوليس بولاية ميريلاند للتحرك الدبلوماسي الفلسطيني ، وأن بذل أقصى الجهود الفلسطينية لإنجاح هذا الاجتماع بالرغم من كل المحبطات الإسرائيلية والأميركية أمر لا مفر منه لأن الشعب الفلسطيني سيدفع ثمنا فادحا لفشل الاجتماع المقترح الذي سيقود فشله أيضا إلى انعدام أي عملية للسلام حتى أمد غير منظور ليسود العنف والتطرف كما قال عباس محذرا في مقابلة أخيرة له مع قناة "العربية" الفضائية ، وسط تقارير إعلامية تتحدث حتى عن احتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة وانهيار سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية أو في الأقل عن استقالة محمود عباس .

وترد قيادة المنظمة على انتقادات ذهابها إلى أنابوليس على قاعدة الانقسام الفلسطيني ، مما يزيد ضعفها ضعفا ، بتكرارها القول علنا إن العودة إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية مع حماس مشروطة بتراجع حركة المقاومة الإسلامية عن "انقلابها" في قطاع غزة ، غير أن هذه الذريعة العلنية تجد لها تفسيرا آخر في المجالس الخاصة أقرب إلى السبب الحقيقي لرفضها الحوار مع حماس يتمثل في رفضها تحمل المسؤولية عن إعادة فرض الحصار الإسرائيلي – الأميركي – الأوروبي على الشعب الفلسطيني باعتبار إعادة فرض هذا الحصار أمرا مفروغا منه إذا ما أعاد عباس وصل ما انقطع مع حماس قبل أن تستجيب حماس للشروط الإسرائيلية – الأميركية التي تبنتها رباعية أميركا – روسيا – الإتحاد الأوروبي – الأمم المتحدة والتي استجابت لهل قيادة عباس وحكومة الطوارئ التي أعلنها في شهر حزيران / يونيو الماضي ، وتتناسى قيادته وحكومته أن هذا الحصار ما زال مفروضا وبقسوة اشد لا ترحم على ثلث الشعب والنصف الآخر من الأرض المحتلة المفروض أنها خاضعة لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني .

إن زيادة حدة الاستقطاب الفلسطيني عشية انعقاد المؤتمرين "الدولي" و"الدمشقي" تظهر مرة أخرى مدى الحاجة الفلسطينية الماسة إلى الوحدة الوطنية وإلى الضرورة الملحة لسرعة العودة إليها باعتبارها الرصيد الإستراتيجي الوحيد لأي قيادة وطنية فلسطينية في إطار الخلل الساحق في موازين القوى لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي ، بسبب الانحياز الكامل لشركاء الرئاسة الفلسطينية في "عملية السلام" لدولة الاحتلال ، وسقوط الخيار العسكري العربي بعد الإجماع الرسمي العربي على السلام ك"خيار إستراتيجي" وغياب التضامن العربي ، وبسبب حسم الرئاسة لموقفها ضد "عسكرة" المقاومة للاحتلال والانتفاضة "الثانية" عليه وهو الموقف المسئول أساسا عن حالة الازدواجية الشرعية المسئولة بدورها عن حالة الانقسام الجغرافي والسياسي التي تمزق النسيج الوطني تمزيقا يهدد في حال استمراره حركة التحرر الفلسطينية المعاصرة بأوخم العواقب .

وقد كانت هذه هي "النصيحة" التي سمعها الرئيس عباس خلال جولته الإسلامية في آسيا الأسبوع الماضي من القادة الإندونيسيين والماليزيين والهنود وهي ذات الرسالة التي يستمر في سماعها من الدول الصديقة للشعب الفلسطيني مثل روسيا والصين والنرويج ناهيك عن عواصم عربية حليفة له في "عملية السلام" .

إجماع فلسطيني معارض

ويكاد يكون هناك إجماع فلسطيني على معارضة الذهاب إلى أنابوليس ، وكان انضمام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، العضو في منظمة التحرير ، إلى ثمانية فصائل مشاركة في مؤتمر دمشق أحدث المؤشرات إلى المسوغات الموضوعية التي توفرها الرئاسة نفسها لانعقاد هذا المؤتمر . وإذا كانت هذه المعارضة لا تعني بالضرورة الموافقة على حضور مؤتمر دمشق فأنها بالتأكيد تقدم للداعين له الكثير من المسوغات لإقناع آخرين بالمشاركة فيه .

فإذا استثنينا حماس ، غير العضو في منظمة التحرير ، التي ترى في الذهاب جزءا من مخطط ل"تصفية المقاومة" ، وتنسجم معها في موقفها الجبهة الشعبية – القيادة العامة العضو في المنظمة ، واستثنينا الجهاد الإسلامي التي تبدو منشغلة تماما في المقاومة ولا يعنيها من كل هذا الجدل سوى احتواء مضاعفاته السلبية على الوحدة الوطنية ، فإن جميع الفصائل الأخرى الأعضاء في منظمة التحرير أو الملتزمة ب"مشروعها الوطني" من غير الأعضاء قد عارضت رسميا وعلنا المشاركة في أنابوليس بشروطها وظروفها الراهنة .

ففي السابع من تشرين الأول / أكتوبر الجاري عقدت الجبهتان الشعبية والديموقراطية وحزب الشعب و"فدا" والمبادرة الوطنية الفلسطينية "اجتماعا قياديا" لمناقشة التحضيرات للاجتماع و"استهدافاته ومخاطره" وتوصلت "في ضوء النتائج العقيمة التي أفضت إليها مسيرة المفاوضات السابقة" إلى النتائج التالية التي تذهب رئاسة الحكم الذاتي وقيادة المنظمة إلى أنابوليس دون أن تعيرها أي التفات:

أولاً: ترى القوى المجتمعة أن الصيغة الناجعة لإيجاد تسوية للصراع العربي والفلسطيني – الإسرائيلي هي صيغة المؤتمر الدولي كامل الصلاحيات الذي ينعقد بمشاركة جميع الأطراف المعنية على أساس قرارات الشرعية الدولية وبهدف تنفيذ هذه القرارات تحت إشراف دولي جماعي في إطار الأمم المتحدة وتحت رعايتها.

ثانياً: إن الدعوة التي أطلقها الرئيس بوش للقاء الخريف لا تستجيب لمتطلبات هذه الصيغة، بل هي تهدف إلى مواصلة الالتفاف عليها وتشويهها.

ثالثاً: إن مواجهة الاستهدافات التي تنطوي عليها هذه الدعوة الأميركية تتطلب تنسيقاً وثيقاً وعملاً مشتركاً حثيثاً فلسطينياً – عربياً .

رابعاً: إن القوى المجتمعة تحذر من مخاطر عقد اللقاء الدولي المقترح والمشاركة فيه ما لم يتوفر الحد الأدنى من هذه الشروط التي تكفل نجاحه في التقدم على طريق الحل الشامل المتوازن ودرء احتمالات الانزلاق إلى دوامة الحلول الجزئية ومستنقع التسويات التصفوية.

خامساً: إن معيار الجدية في أي جهد دولي لتسوية الصراع يتمثل في حمل إسرائيل على وقف ممارساتها العدوانية ضد شعبنا والكف عن فرض الوقائع على الأرض من جانب واحد وإلغاء القرار التعسفي باعتبار قطاع غزة كياناً معادياً، وفك الحصار عنه.

سادساً: تحذر القوى المجتمعة من المخاطر التي ينطوي عليها خوض المعركة التفاوضية في ظل وعلى قاعدة تكريس الانقسام الفلسطيني الداخلي .

سابعاً: تؤكد القوى المجتمعة أن درء المخاطر والمنزلقات التي تنطوي عليها التحركات السياسية الجارية يتطلب الإشراف الجماعي على إدارة العملية التفاوضية، بمشاركة فاعلة لكافة القوى الفلسطينية الراغبة في ذلك .

وقد تداعت معظم الفصائل الفلسطينية إلى عقد ما سمي "المؤتمر الوطني الفلسطيني لمقاومة برامج تصفية القضية الفلسطينية" في "مجمع صحارى" بدمشق في الفترة الواقعة ما بين 7 – 9 /11/ 2007 تحت شعار "الوحدة الوطنية طريق للتحرير وللعودة" . وحسب نص الدعوة لحضور المؤتمر الموقعة من "رئيس اللجنة التحضيرية د. طلال ناجي" فإن أهداف انعقاد المؤتمر هي "مواجهة الأخطار التي تتهدد القضية الوطنية الفلسطينية ... والتحذير من استهدافات مؤتمر (الرئيس الأميركي جورج دبليو.) بوش ووضع كل الأطراف الفلسطينية المعنية والنظم العربية أمام مسؤولياتها التاريخية بعدم تقديم الغطاء لهذه المغامرة التي تستهدف تصفية حقوق شعبنا" و"وضع آليات لمعالجة حالة الانقسام الفلسطينية الراهنة ... والتأكيد على الوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار م.ت.ف." و"التأكيد على حق شعبنا في استمرار المقاومة" و"التأكيد على التمسك بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين" .

ثم تتساءل القيادة المفاوضة مستهجنة ومستنكرة بعد كل ذلك ، وغيره كثير ، لماذا ينعقد مؤتمر فلسطيني معارض لمؤتمر بوش ولمشاركتها فيه في دمشق ! والأحرى بها أن تتساءل لماذا لا ينعقد مؤتمر كهذا داخل الوطن أيضا ، ومؤتمرات مماثلة في كل العواصم العربية ، بغض النظر عن الأجندات الفصائلية الخاصة والأجندات الخاصة بالدول التي قد تستضيف أو تمول أو تدعم مثل هذه المؤتمرات ، فهذه الأجندات التي تركز القيادة عليها للطعن في مثل هذه المؤتمرات لن تنجح في الانتقاص من المسوغات الموضوعية لانعقادها ، فالأحرى بالقيادة أن تبحث عن هذه المسوغات في أجندتها هي التي تستجيب لاستحقاقات تسميها دولية وهي في حقيقتها أميركية – إسرائيلية للذهاب إلى مؤتمر يضع خصومها جدول أعماله ليكونوا هم فيه الخصم والحكم في الوقت نفسه .

إن ذهاب القيادة المفاوضة إلى مؤتمر كهذا لا صلاحيات له ولا تشارك فيه كل الأطراف الأصيلة المعنية بالصراع وعلى قاعدة الانقسام فلسطينيا وعربيا وعلى أساس مرجعيات تتجاوز الخطوط الحمراء للثوابت الوطنية ، سيكون مستغربا إن مر دون احتجاجات وطنية واسعة النطاق ودون اعتراضات شعبية عربية أوسع نطاقا تنبه المشاركة العربية والدولية فيه إلى قيامها بدور شاهد الزور .

ويلفت نظر المراقب التناقض الظاهر بين الحملة الإعلامية لهذه القيادة للحط من أهمية "المؤتمر الوطني الفلسطيني" التي تزمع المعارضة عقده وبين حملتها السياسية لمنع انعقاد هذا المؤتمر الذي حقق حتى قبل انعقاده بعض أهداف عقده ، مثل تسليط الأضواء على وجود معارضة فلسطينية للمؤتمر الدولي الذي اقترحته واشنطن لإحياء عملية التفاوض الفلسطيني – الإسرائيلي أو في الأقل وجود معارضة للمرجعيات الجديدة لهذا المؤتمر التي تنطوي على تنازلات حتى عن مرجعيات اتفاقيات أوسلو التي انطلقت عام 1993 .

إن قرار الرئاسة بإيفاد كبير مفاوضي الوضع النهائي أحمد قريع إلى دمشق لثنيها عن استضافة المؤتمر (الخليج الإماراتية والحياة اللندنية) وحثها رئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون على إصدار بيان ضد المؤتمر إنما يظهر فقط أن الرئاسة تولي مؤتمر دمشق أهمية تعادل الأهمية التي يعطيها له أصحابه ، مما يتناقض مع وصف أمين عام اللجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عبد ربه بأنه "مؤتمر خزعبلات" و "زوبعة في فنجان" سوف "تنتهي آثاره بمجرد رفع أعماله" (الإعلام المركزي لفتح) ووصف الناطق الإعلامي لفتح أحمد عبد الرحمن للمؤتمر بأنه "لا قيمة له" .

وتأخذ القيادة المفاوضة على المؤتمر عدم شرعيته لأن المنظمة لم تدع إليه ولأنه يعمق الانقسام الفلسطيني (بيان رئاسة المجلس الوطني) ، متجاهلة أن قيادة لا تدعو المجلس الوطني نفسه للانعقاد ولا تعقد المؤتمر الحركي لفتح لا يتوقع منها الدعوة إلى أي مؤتمر شعبي في الأقل للاستئناس برأيه حول ما تجريه من مفاوضات ، ومتجاهلة مسؤوليتها الذاتية المشتركة عن حالة الانقسام السائدة وعن استمرارها .

وسارعت قيادة المنظمة إلى انتقاد هذا المؤتمر وحث الأمين العام للجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عبد ربه الدول العربية على عدم احتضان مؤتمرات تطعن في الشرعية الفلسطينية واتهم سوريا بأنها طالما حاولت وفشلت في شق منظمة التحرير . أما أحمد قريع فإنه في اجتماع نخبة فتح الذي سبقت الإشارة إليه أعرب "عن أمله في أن لا ينعقد هذا المؤتمر من حيث المبدأ ، لأنه يعتبر خطأ كبيرا في محاولة لالحاق ضرر بالقيادة والوفد الفلسطيني سيلحق ضررا مباشرا على قضيتنا الوطنية ، وإن كان لا يعطل المؤتمر" المرتقب ، طبقا لبيان الإعلام المركزي للحركة ، مع أن تقارير إعلامية ترجح حضور القيادي في فتح وفي المنظمة فاروق القدومي مؤتمر دمشق . وقد قرر المجلس الوطني الفلسطيني برئاسة سليم الزعنون يوم الاثنين الماضي عدم المشاركة بالرغم من عدم الإجماع على ذلك وكان دفاع عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة عبد الرحيم ملوح علنا عن حق المشاركين وغيرهم من الفلسطينيين في إبداء آرائهم في اليوم السابق خروجا على الموقف الرسمي للجنة التنفيذية الذي عارض في بيان رسمي الأسبوع الماضي انعقاد المؤتمر في حد ذاته كما عارض استضافة المكان الذي ينعقد فيه له .

قلق وطني مبرر

إن للقلق الوطني الفلسطيني مسوغاته وكذلك التعبير عنه في المؤتمرات وغيرها من أشكال التعبير ، ولا يستمد هذا القلق مسوغاته فقط من تجربته الطويلة مع الاحتلال الإسرائيلي والانحياز الأميركي لهذا الاحتلال والعجز العربي عن توفير خلاص قومي للهم الوطني الفلسطيني بل يستمدها أكثر في الوقت الراهن من عدم ثقة في البرنامج السياسي للقيادة التي أوصلته إلى الوضع الراهن وفي الأداء التفاوضي لهذه القيادة من تجربة السنوات الخمسة عشر الماضية .

إن ترافق توافق المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين على أن تكون الدولة الإسرائيلية وطنا قوميا لليهود والدولة الفلسطينية وطنا قوميا لعرب فلسطين وفق "رؤية" حل الدولتين الأميركية مع تبني واشنطن للمطالبة الإسرائيلية باعتراف فلسطيني وعربي ب"يهودية" دولة الاحتلال قد فتح باب القلق الوطني الفلسطيني على مصراعيه لأن أي اعتراف كهذا هو المدخل السياسي الموضوعي لموافقة القيادة الفلسطينية عل "التبادل الديموغرافي" السكاني بعد موافقتها على التبادل الجغرافي ومثل هذه الموافقة بدورها ستكون المدخل الموضوعي ليس فقط لاستبعاد حق اللاجئين في العودة بل أيضا لل"ترانسفير" الذي يتحين الإستراتيجيون الإسرائيليون الفرص لتطبيقه .

وكلا المبدأين إن تبنتهما القيادة الفلسطينية رسميا ، وقد تبنت أحدهما فعلا ، يمثلان مساومة على حقوق وطنية غير قابلة للتصرف وينطويان على قبول بأن الأراضي المحتلة هي أرض متنازع عليها يمكن تبادلها وبأن عودة اللاجئين ليست حقا وطنيا بل موضوع تفاوض يمكن أن يتفق عليه ومن هنا القلق الوطني من مصطلحات ترددها القيادة الفلسطينية مثل تبنيها لحل "عادل متفق عليه" لقضية اللاجئين وتبنيها رسميا لمبادرة السلام العربية التي تنص على ذلك تحديدا .

فعندما يقول شمعون بيريس رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي إن ما هو معروض على الفلسطينيين في الاجتماع الدولي الذي اقترحته واشنطن هو "ما يعادل 100% من الأرض المحتلة في سنة 1967" ، وليس الأرض الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في تلك السنة ، وإن إسرائيل ستحتفظ بالمستعمرات الاستيطانية اليهودية الكبرى في الضفة الغربية ، وإن مساحة هذه المستعمرات تبلغ 5% من مساحة الضفة ، وإنها ستبادل الفلسطينيين بمساحة تعادل هذه الخمسة في المائة من الأراضي المأهولة بالفلسطينيين الحاصلين على الجنسية الإسرائيلية في إسرائيل ، وإن هذه الخمسة في المائة لا تشمل القدس الشرقية ولا المستعمرات اليهودية فيها ولا مستوطني هذه المستعمرات ، وكل ذلك استنادا إلى التعهدات الأميركية التي وعد الرئيس جورج دبليو. بوش إسرائيل بها في رسالته إلى رئيس الوزراء السابق آرييل شارون في 14 نيسان / أبريل 2004 ، يتضح أن جدول أعمال مؤتمر بوش المقترح ، والذي لم يعلن عنه رسميا حتى الآن ، يتضمن بندين رئيسيين هما "التبادل الجغرافي" و"التبادل السكاني" .

وكان تصريح الرئيس عباس في العاشر من الشهر الجاري بأنه يريد الدولة الفلسطينية المرجوة على مساحة 6205 كيلومترات مربعة هي مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة دون أن يربط ذلك بحدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 متساوقا ومنسجما تماما مع رؤية بيريس ، وكان مثار قلق جديد لشعبه لأنه يتساوق مع مبدأ تبادل الأراضي الذي تصر عليه دولة الاحتلال للاحتفاظ بمكاسبها الاستيطانية من احتلالها ، خصوصا في القدس ، وفي التصريح نفسه دافع عباس عن هذا المبدأ بالقول إنه "بالنسبة لتعديل الحدود فهذا مذكور في القرار 242" مشيرا إلى أن التعديل سيكون "بالمثل" ، وإن وجود الشريك الفلسطيني لمبادرة جنيف غير الرسمية ، ياسر عبد ربه ، في الوفد المفاوض يزيد من القلق لأن مبدأ "المثل" بنسبة 1:1 قد تم اعتماده في المبادرة لمبادلة ثلاث مجمعات استيطانية كبرى في القدس بشريط من صحراء النقب مواز لقطاع غزة !

ولم تصدر حتى الآن عن القيادة الفلسطينية المسئولة عن المفاوضات أي موافقة رسمية على مبدأ التبادل السكاني ، لكن لم يصدر عنها أيضا أي رفض صريح لهذا المبدأ ، ولا أي توضيح للفصل بين تبادل الأراضي كما تفهمه هي وبين تبادل الأراضي كما يفسره بيريس . ولا يوجد ما يسوغ صمتها على تصريحات بيريس وإدانتها بصراحة مباشرة دون الاكتفاء بعرض الموقف الفلسطيني العام لأن "الشيطان" كما يقولون يكمن في التفاصيل .

إن الدعوة الإسرائيلية التي تبناها بوش وإدارته إلى تجديد الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل لكن ك"دولة يهودية" هذه المرة ، دون الاكتفاء بالاعتراف المتبادل الأول مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 ، هي دعوة لها صلة وثيقة بمبدأ "التبادل السكاني" . وبالرغم من "الشائعات" الإعلامية فإنه لم يصدر أيضا عن القيادة الفلسطينية رسميا ما يشير إلى استعدادها للاعتراف بدولة الاحتلال ك"دولة يهودية" لكن لم يصدر عنها كذلك أي رفض قاطع جامع مانع لأي اعتراف كهذا ، بالرغم مما لرفض استباقي كهذا من أهمية لتبديد أي شكوك وطنية أو تشكيك مغرض في مصداقية المفاوض الفلسطيني من ناحية ولسد أي ثغرة في الموقف التفاوضي الفلسطيني قد توحي بأي إمكانية لأي استعداد كهذا من ناحية أخرى .

وما زال إعلان مثل هذا الرفض القاطع الجامع المانع استحقاقا مطلوبا من القيادة الفلسطينية المفاوضة لأن الترجمة السياسية لمبدأ التبادل السكاني ذات شقين: أولهما يفتح مدخلا للإبعاد الجماعي "الترانسفير" لعرب فلسطين الصامدين في الوطن منذ عام 1948 دون أن تنجح "الجنسية الإسرائيلية" في النيل من هويتهم الوطنية بينما يغلق ثانيهما
باب الأمل في عودة ضحايا الترانسفير العنصري الأول للنكبة التي حلت بعرب فلسطين قبل ستين عاما . أما "الصمت" وعدم إعلان الرفض الفلسطيني الصريح الذي لا لبس فيه من حيث المبدأ للتبادل السكاني فلا يوجد أي تفسير سياسي له خارج نطاق تجاوز خط أحمر لواحد من الثوابت الوطنية الأهم .

وإذا كان إعلان رفض التبادل السكاني استحقاقا مطلوبا من الرئاسة الفلسطينية ووفدها المفاوض فإن التراجع عن الموافقة المعلنة على التبادل الجغرافي هو استحقاق آخر لم يفت أوانه بعد ، سواء كان هذا التبادل الجغرافي مدخلا للتبادل السكاني كما تريده القيادة الإسرائيلية أم كان مدخلا للاعتراف الفلسطيني بمكاسب لإسرائيل من احتلالها عام 1967 في الضفة الغربية وخصوصا في شرق القدس .

وطالما ترى القيادة بأن الصراع مع دولة الاحتلال قد تحول إلى نزاع على الحدود ، فإن الحد الأدنى لتنازلاتها من أجل السلام في مجال تبادل الأراضي يجب أن يستثني القدس تماما من أي تبادل كهذا لأسباب وطنية وعربية وإسلامية ، ليس أقلها وطنيا أن القدس هي صلة الوصل الإقليمية التي لا غنى عنها بين شمال أي دولة فلسطينية مرجوة قابلة للحياة وبين جنوبها .

وتبدو القيادة المفاوضة متناقضة تماما مع نفسها عندما تكرر المطالبة بالالتزام بخريطة الطريق كمرجعية لمفاوضات الوضع النهائي وتكرر في الوقت نفسه رفضها لدولة فلسطينية انتقالية ذات حدود مؤقتة ودون سيادة ومجردة من السلاح كخيار ورد في المرحلة الثانية من خريطة الطريق ، وتبدو متناقضة أكثر عندما تقرن هذا الرفض اللفظي بالذهاب إلى مؤتمر بوش المقترح دون أن تشترط مسبقا تطبيق قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي الخاص بجدار الضم والتوسع الإسرائيلي لأن إسرائيل تقترح "حشر" هذه الدولة المؤقتة بين الجدار ك"حدود ديموغرافية" لها في الغرب وبين الغور الفلسطيني في وادي الأردن ك"حدود أمنية" لها في الشرق .

إن إفراط الرئاسة الفلسطينية في واقعية التجاوب مع استحقاقات تسميها دولية وهي في حقيقتها أميركية – إسرائيلية تشترط مسبقا "تأبيد" الانقسام الفلسطيني للتعاطي مع هذه الرئاسة ك"شريك" مؤهل للتفاوض على السلام يساهم مساهمة رئيسية في خلق بيئة مواتية تماما لتفاقم حدة الاستقطاب الداخلي ويقدم مسوغات مجانية ذات مصداقية لاتساع المعارضة وبالتالي لتعميق الانقسام .

أين الأزمة: في المفاوض أم في موضوع التفاوض ؟

وتجد القيادة المفاوضة من الأسهل عليها أن تلخص الأزمة الفلسطينية المستحكمة بأنها أمنية ناتجة عن "انقلاب" حماس على شرعية الرئاسة في قطاع غزة لكن الأزمة في الواقع سياسية وقد نجمت عن تجاوب الرئاسة مع الاستحقاقات الأميركية الإسرائيلية التي تبنتها الرباعية الدولية مما قادها إلى رفض النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات التشريعية أوائل عام 2006 طيلة عام ونصف العام مما دفع حماس إلى "الحسم العسكري" ضد أجهزة أمنية تقول إنها متمردة على شرعية حكومة الوحدة الوطنية التي كانت تقودها .

ويدور حاليا جدل فلسطيني ساخن حول ما يصفه المسئولون الإسرائيليون (وزيرة الخارجية تسيبي ليفني مثلا) ب"العملية الدبلوماسية" التي فرضتها الإدارة الأميركية على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لدوافع لها في الأصل علاقة بالوضع الإقليمي أكثر من علاقتها بصنع السلام بينهما .

وبينما يتركز الجدل في الظاهر حول الوفد الفلسطيني المفاوض ، يجري تغييب حقيقة أن الأزمة الداخلية الفلسطينية الوطنية والسياسية تدور في الواقع حول موضوع التفاوض ذاته ، ومرجعياته ، وآفاقه ، وقاعدة الانقسام الوطني الذي يراد استمرارها كشرط مسبق لاستمرار المسعى الأميركي لإحياء المباحثات بين الجانبين ، والإطار "الثنائي" للمفاوضات الجارية الذي تصر واشنطن عليه بالرغم من أنه يحاصر المفاوض الفلسطيني في وضع يكون فيه في أضعف حالاته مرتهنا فقط لحسن النوايا الأميركية ولرحمة موازين القوى الراجحة بشكل حاسم لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي.

غير أن الأزمة تكمن في موضوع التفاوض وفي المفاوض الفلسطيني معا لأن الوضع الراهن الذي يجد الشعب الفلسطيني فيه نفسه أسير عملية سلام سلبياتها أكثر من إيجابياتها هو وضع من صنع الوفد المفاوض الحالي نفسه ، الذي لم يتغير منذ توقيع "إعلان المبادئ" الفلسطيني الإسرائيلي في واشنطن عام 1993 واتفاقيات أوسلو التي أعقبته ، فهذا الوفد "مجرب" كما وصفته عضو المجلس التشريعي حنان عشراوي وطالبت بتغييره ، مع أن وسائل الإعلام الإسرائيلية (يديعوت أحرونوت وهآرتس مثلا) عقدت مقارنات لصالحه بينه وبين نظيره الإسرائيلي بسبب "تجربته" نفسها التي ينتقدها الفلسطينيون على نطاق واسع .

وإذا كان المفاوض الفلسطيني في رموزه الأساسية لم يتغير منذ خمسة عشر عاما فإن موضوع التفاوض ومرجعياته قد غيرتها واشنطن ، راعية عملية السلام العقيمة ، تغييرا يطال المرجعيات ذاتها التي عدلتها لكي تستوعب المكاسب التي حققتها الدولة المحتلة على الأرض بالقوة المسلحة خلافا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة تحت مظلة السلام الزائف نفسها .

لقد كشفت زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الأخيرة للأراضي المحتلة ودولة الاحتلال ، وهي السابعة في جولاتها المكوكية خلال العام الحالي ، أن إدارتها لا تتورع حتى عن إسقاط القناع الدبلوماسي في ضغطها على المفاوض الفلسطيني تكتيكيا واستراتيجيا ، إذ لا يمكن تلخيص نتائج زيارتها إلا بكونها حلقة جديدة في سلسلة الضغوط الأميركية على هذا المفاوض للتساوق مع الإملاءات الإسرائيلية .

فرايس لم تردعها اللياقة الدبلوماسية عن توفير ضغطها على الرئيس محمود عباس للمجالس الخاصة والدبلوماسية الهادئة إذ عارضته علنا في كل ما يطالب به تقريبا لإنجاح لقاء انابوليس الذي اقترحه رئيسها جورج بوش في 16 أيلول / يوليو الماضي ، وأصرت على عدم تدخل إدارتها في الأقل ل"إقناع" إسرائيل إن لم يكن للضغط عليها للتجاوب مع مطالبه ، كما يطالب المفاوض الفلسطيني ويأمل .

فهي أصرت على ترك المفاوض الفلسطيني لرحمة دولة الاحتلال ، مكررة أن الدعم الأميركي يقتصر على "العملية الثنائية" و"المسار الثنائي" و"الرؤية الثنائية" وأن واشنطن "لا تستطيع أن تكون بديلا للمباحثات الثنائية أو للاتفاقيات الثنائية بين الطرفين" وأن دور المجتمع الدولي يقتصر على دعم ما "يحاول الإسرائيليون والفلسطينيون عمله" ثنائيا "دون أي مساعدة" وأن لقاء أنابوليس "هو اجتماع حول المسار الإسرائيلي الفلسطيني" الثنائي .

وحول مطالبة عباس بجدول زمني قالت إنها "تشك في الجداول الزمنية" . وحول مطالبته بتحديد هدف للمفاوضات قالت إن "الأمر الأهم هو الحوار نفسه" وأن أنابوليس" هي "بداية عملية (حوار) لا نهايتها" . وحول مطالبة عباس بإزالة الغموض عن جدول أعمال اللقاء والأطراف التي ستدعى إليه قالت إن "الوضوح الذي أسعى إليه" هو حول أين وصل الطرفان في مباحثاتهما حول "البيان الثنائي" التي أعربت عن أملها في أن يقدماه للقاء "الخريف" المرتقب !

إن كل الدلائل والقراءات للمواقف الرسمية المعلنة للإدارة الأميركية وحليفها الاستراتيجي الإسرائيلي تثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن واشنطن التي يراهن عليها المفاوض الفلسطيني قد غيرت المنطلقات السياسية لعملية التفاوض ، غير أن هذا المفاوض يبدو كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال حتى لا تواجه الخطر الداهم الذي يتهددها ، كمن يتعلق بالوهم في إصراره الذي لا يوجد أي تفسير منطقي له على أن المفاوضات ما زالت تستهدف مبادلة الأرض بالسلام لإقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 .

وهذه الرسالة الأميركية قد وصلت في الأقل إلى بعض المصادر الفلسطينية التي نقلت عن رئيس وزراء دولة الاحتلال إيهود أولمرت (مجلة "الحرية" في 18 الجاري) قوله إن المفاوض الإسرائيلي قد اعتمد رسالة جورج بوش إلى سلف أولمرت ، آرييل شارون ، في 14 نيسان/أبريل 2004 ، والتي وصفها عرب فلسطين ب"وعد بلفور الثاني" ، أساسا للتفاوض في لقاء الخريف الدولي في أنابوليس بولاية مريلاند الأميركية قبل نهاية العام الحالي .

وقد أكد رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي ، تزاهي هانيغبي ، ما نسبته "المصادر الفلسطينية" لأولمرت عن الأساس التفاوضي المعتمد للوفد الإسرائيلي في لقاء أنابوليس عندما أبلغ لجنته أن الحكومة الأميركية منحت إسرائيل "التزاما خطيا" بعد إعادة نشر قواتها ومستوطنيها خارج قطاع غزة عام 2005 بالوقوف إلى جانبها عندما تتجه مفاوضات الوضع النهائي نحو بحث قضيتي اللاجئين والمستعمرات الاستيطانية (الجروزالم بوست في 18 الجاري) .

والمفارقة التاريخية أن الموقف الأميركي من الاحتلال الإسرائيلي كافأ الانقلاب في الموقف الإستراتيجي الفلسطيني الذي تبنى حل الدولتين في وثيقة إعلان الاستقلال عام 1988 ، الذي تُرجم لاحقا إلى اعتراف بإسرائيل ، بتراجعات توجتها واشنطن ب"وعد بلفور الثاني" .

فالمستعمرات الاستيطانية اليهودية ، التي تقول آخر التقارير إن عدد مستوطنيها يبلغ الآن نصف مليون مستوطن ، لم تعد في نظر الإدارة الأميركية "غير شرعية" ، وأصبحت المطالبة بتفكيكها أمرا "غير واقعي" ، وبالتالي فإن ضمها إلى إسرائيل تحول إلى واقع يفرض عدم العودة إلى حدود عام 1967 باعتبار أي انسحاب كهذا لقوات الاحتلال أمرا "غير واقعي" بدوره ، وتحولت الأراضي المحتلة في نظر واشنطن إلى أراض "متنازع عليها" يتفاوض الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي على تقاسمها .

ثم تحولت "الديموقراطية الوحيدة" الإسرائيلية في الشرق الأوسط التي كانت واشنطن تتغنى بها إلى دولة تطالب الإدارة الأميركية العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون أن يعترفوا بها ك"دولة يهودية" من "غير الواقعي" أيضا أن يعود إليها اللاجئون الفلسطينيون ، لكن من "الواقعي" أن يبدأ الجميع في التفكير في كيفية حل مشكلة مليون ومائتي ألف عربي فلسطيني يحملون جنسيتها للحفاظ على "يهوديتها" ، ربما ب"نقلهم" ، ضمن عملية "تبادل ديموغرافي" (ولم لا طالما وافق المفاوض الفلسطيني على مبدأ التبادل الجغرافي) في عملية السلام ، إلى مخيم اللاجئين الأكبر في العالم الذي يخططون لإطلاق اسم "دولة فلسطينية" عليه في الضفة الغربية وقطاع غزة أو بالإبعاد الجماعي لهم "الترانسفير" كما يصرح وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان !

حماس "تحرر" المفاوض الفلسطيني

إن تأكيد المفاوض الفلسطيني المتكرر على أن الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي ومبادرة السلام العربية والاتفاقيات الموقعة وخريطة الطريق ومبادلة الأرض بالسلام هي مرجعياته الإستراتيجية للتفاوض مع "شريك إسرائيلي" يرفض كل هذه المرجعيات مجتمعة ومنفردة يتحول إلى تأكيد لفظي يعادل اللغو ، بينما تتحول المراهنة على "وسيط أميركي" سجله التاريخي حافل بنقض أي تحرك دولي للسلام على أساسها إلى سذاجة سياسية تفتقد الحد الأدنى من الواقعية السياسية إذا افترض المراقب حسن النية ولم ينسق مع الاتهامات التي يسوقها للمفاوض الفلسطيني خصومه السياسيون .

لقد نفى رئيس الوفد الفلسطيني لمحادثات الوضع النهائي أحمد قريع يوم الجمعة قبل الماضي وجود "أزمة" في المفاوضات مع الوفد الإسرائيلي التي عقدت في ذلك اليوم جولتها الثالثة من المباحثات في القدس المحتلة ، ونفيه هذا مستغرب لأنه يتناقض تماما ليس فقط مع كل المقدمات التي عرضنا لها بل ويتناقض كذلك مع الانتقادات التي وجهها الرئيس عباس نفسه عقب لقائيه مع رايس الأسبوع الماضي لإسرائيل وقال فيها إن الأفعال الإسرائيلية على الأرض تهدد بعرقلة "العملية الدبلوماسية" الجارية . لكن قريع طبعا لم ينف وجود أزمة فلسطينية حول المفاوضات نفسها .

إن المؤتمرات السياسية والشعبية التي تتكاثر كالفطر في أوساط اللاجئين والقوى الوطنية ما هي إلا ضوء احمر للنبض الوطني يعكس مدى الإحساس بالخطر نتيجة "الإطار الإستراتيجي" للمفاوضات الراهنة الهادفة إلى إحياء عملية سلام لم يتمخض عنها منذ عام 1991 إلا المزيد من الاحتلال والقتل والاستعمار الاستيطاني والتهجير و"التفاوض" على الحقوق الوطنية التي قررت الشرعية الدولية قبل أن يقرر الضمير الوطني الفلسطيني أنها غير قابلة للتصرف ، سواء بالتفاوض أو بغيره .

ولا ينتقص من هذه المؤتمرات معارضة المفاوض الفلسطيني لها بذرائع قد تكون صحيحة وقد لا تكون ، مثل استضافة دول عربية لها هي بكل المقاييس شريكة للشعب الفلسطيني في السلام وفي المقاومة بغض النظر عن سياسة "فرق تسد" التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي للإيقاع بين "مسارات" الصراع العربية معه .

إن ما تصفه الرئاسة الفلسطينية ب"الانقلاب" في غزة ، وما تصفه رئاسة حكومة الوحدة الوطنية السابقة بعملية "شرعية لفرض القانون والنظام" في القطاع ، قد "حرر" المفاوض الفلسطيني عمليا من أي مشاركة أو مساءلة أو رقابة وطنية قد تحد من إفراطه في المرونة التفاوضية ، وقد ضمنت الرئاسة "تفردها" في التفاوض بإعلانها حالة الطوارئ ، وأهلٌت مفاوضها تماما ليكون مستوفيا لشروط تلبية الاستحقاقات الدولية ، وهي نفسها الاستحقاقات الأميركية الإسرائيلية التي تبنتها اللجنة الرباعية الدولية كشروط لفك الحصار عن الشعب الفلسطيني ، مما أهل الرئاسة ومفاوضها معا للاعتراف الإسرائيلي – الأميركي بهما "شريكا فلسطينيا" ، لكن ليس للسلام بل للتفاوض إلى ما لا نهاية على السلام .

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: