السبت، أكتوبر 13، 2007

السياق السياسي لاجتثاث الجالية الفلسطينية في العراق

نقولا ناصر

(
يجري ميدانيا تفكيك الجالية الفلسطينية في العراق وتشتيتها وإعادة تهجيرها قسرا بأيدي قوى محسوبة على إيران بينما الاحتلال الأميركي "يتفرج")

(سبق تفكيك الحالة العراقية وتفكك الحالة اللبنانية تفكيك الجالية الفلسطينية الكبيرة في الكويت)

(مرجعيات مؤتمر بوش الخريفي تدفع القيادة الفلسطينية إلى الوقوف على منزلق خطر بين الاستحقاقات الدولية وبين الخطوط الحمر الوطنية)

إن "اجتثاث" الجالية الفلسطينية في العراق بعد تشتيت شقيقتها في الكويت والتفكيك الجاري للاجئين الفلسطينيين في لبنان يعيد "قضية اللاجئين" إلى مركز الضوء باعتبارها إحدى ركيزتين إضافة إلى الأرض المحتلة تمثلان جوهر قضية فلسطين التي لن يستقيم أي حل سلمي أو غير سلمي لهذه القضية بالقفز عن العدل في التعاطي السياسي معهما كما يخشى عرب فلسطين أن يحدث في الحراك الدولي والإقليمي الجاري حاليا للتوصل إلى تسوية سياسية بالتفاوض للصراع العربي الإسرائيلي وفي القلب منه القضية الفلسطينية .

ويتمثل المنزلق الإستراتيجي الراهن في "الواقعية" التي تنتهجا القيادة الفلسطينية للتعاطي مع "الإجماع" الإسرائيلي على رفض عودة اللاجئين في التساوق مع خيارات هي في الأساس إسرائيلية لحل قضية اللاجئين مستوحاة من مجموعة مبادرات غير رسمية توصل إليها "بلدوزرات سلام" فلسطينيون يشغلون مناصب قيادية مع "شركاء سلام" إسرائيليون لهم مثل وثيقة "مبادرة جنيف" (ياسر عبد ربه – يوسي بيلين) والتي سميت "مسودة اتفاقية للوضع الدائم" ووثيقة يوسي بيلين – محمود عباس التي سميت "مشروع معاهدة لقضايا الحل النهائي" ووثيقة سري نسيبة – أيلون . وقد صرح نمر حماد المستشار السياسي للرئيس محمود عباس مؤخرا علنا بأن "وثيقة جنيف" هي احدي مرجعيات المفاوضات الحالية .

وجميع هذه المبادرات تستند إلى اتفاقيات أوسلو (التي تضمنت مجرد إشارة إلى بحث قضية اللاجئين في مفاوضات الوضع النهائي) والتي استندت بدورها إلى قراري مجلس الأمن الدولي 242 و 338 الخاصين بإزالة آثار العدوان الإسرائيلي عام 1967 دون أن ترد كلمة فلسطين ولو مرة واحدة في نصوصهما التي ذكرت كلمة "اللاجئين" بعامة في غموض مدروس ليشمل ما يسميه الإسرائيليون "اللاجئون اليهود" من الدول العربية ، وجميع هذه المبادرات حصرت أساسا حق العودة الفلسطيني جغرافيا بالعودة إلى الدولة الفلسطينية الموعودة في الضفة الغربية وقطاع غزة وسياسيا حصرت الحل في "حل عادل متفق عليه" بالتفاوض حوٌل حق العودة من حق للتنفيذ طبقا للقرار الأممي 194 إلى حق هو موضوع تفاوض تملي نتائجه موازين القوى المختلة تماما لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي .

ويجري حاليا تفكيك جالية اللاجئين الفلسطينيين في العراق في سياقات إقليمية ودولية يتمحور حراكها السياسي والدبلوماسي حول استقراء وجود "فرصة تاريخية" لمصالحة عربية إسرائيلية يرى أصحابها أن إمكانيات "واقعية" تتوفر لها للقفز لأول مرة فوق "حق العودة" الفلسطيني الذي أحبط كل جهود السلام السابقة ، إمكانيات تتمثل في الاستثمار السريع للهيمنة العالمية التي لن تطول للقطب الأميركي الأوحد وللهيمنة الإقليمية الأميركية الإسرائيلية التي كشفت المقاومة الوطنية في فلسطين ولبنان والصمود السوري أن لها حدودا جغرافية وزمنية بدأت تتراجع بدورها ولوجود النظام الرسمي العربي في أضعف حالاته وأقلها تضامنا وأكثرها استعدادا للرضوخ أو للتساوق مع الاملاءات الخارجية .

ويتزامن تفكيك الجالية الفلسطينية في العراق مع تفكك "الحالة الفلسطينية" نتيجة لأزمة الازدواجية الفلسطينية المستحكمة وكذلك بحكم الأمر الواقع في لبنان ، وكان تسلل "فتح الإسلام" إلى بعض مخيماتها أحد مظاهر هذا التفكك بينما قاد حسم المعركة العسكرية ضد فتح الإسلام في مخيم نهر البارد إلى أحدث المظاهر السياسية لهذا التفكك المتمثل عمليا في بداية انهيار "اتفاق القاهرة" الذي كان يحكم العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والمخيمات وبين الدولة اللبنانية ، وهو التطور الذي يحرص الجانبان على تجنب الخوض العلني فيه . وكانت الحرب الأهلية اللبنانية قد فككت ثلاث مخيمات فلسطينية لم يعد لها وجود الآن .

وسبق تفكيك الحالة العراقية وتفكك الحالة اللبنانية تفكيك الجالية الفلسطينية الكبيرة في الكويت عام 1991 وهي التي تجمعت هناك كجزء من خطط دمج اللاجئين الفلسطينيين في الحياة السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط بتشجيع من الانتداب البريطاني على الكويت قبل استقلالها أوائل ستينات القرن الماضي .

طبقا للأمم المتحدة كان يوجد في العراق قبل الغزو الأميركي 34 ألف فلسطيني ومنذ عام 2003 غادر العراق حوالي 19 ألفا منهم ، حيث استضاف اليمن 5 آلاف والسودان 1700 والبرازيل وتشيلي بضع عشرات ومنحت كندا حق اللجوء ل 46 آخرين ، وبقي 15 ألف ما زالوا يتعرضون للتهديد بالإبعاد القسري والاعتقالات التعسفية والتعذيب والقتل ، وقد قتل منهم 240 كما قال عزام الأحمد رئيس كتلة فتح البرلمانية في المجلس التشريعي الفلسطيني في الأسبوع الماضي بينما تقول تقارير أخرى إن عدد قتلاهم زاد على 600 ، بينما تتعرض أحياؤهم في الحرية والبلديات ببغداد خصوصا لهجمات فرق الموت والمليشيات . وقد علق كثير من "الراحلين" في ثلاث مخيمات على الحدود مع سوريا هي الهول (فيه أقل من 305 لاجئ) والتنف ( 356 لاجئ) والوليد (500 لاجئ) ومخيم الرويشد على الجانب الأردني من الحدود مع العراق حيث ما زال 148 عالقون وقال الأحمد إن المنظمة هي التي أنشأت المخيم الأخير .

وجدير بالملاحظة هنا أن الأونروا لا تعترف باللاجئين الفلسطينيين إلى العراق كلاجئين في سجلاتها ولا تقدم بالتالي أي خدمات لهم ولا تتحمل أي مسؤولية عنهم بالرغم مما وصفه قادة فلسطينيون بأنه "حملة تطهير عرقي منظمة" وبالرغم من أن "ما يحدث هناك هو من أكبر المآسي الناجمة عن حرب العراق" كما قال مسئول في منظمة "ريفيوجيز إنترناشونال" في واشنطن وهي منظمة تعني بالمهجرين حول العالم . لقد نشأت الجالية الفلسطينية في العراق أصلا من لاجئي عام 1948 ثم انضم إليهم "نازحون" بعد الاحتلال الإسرائيلي لباقي الأرض الفلسطينية عام 1967 ثم تعززت هذه الجالية بعد تفكيك الجالية الفلسطينية في الكويت عام 1991 بفلسطينيي غزة الذين يحملون وثائق سفر مصرية ولم يستطيعوا العودة إلى القطاع ولا قبلت مصر استضافة من يحملون وثائقها ولم يفتح حدوده لهم آنذاك سوى العراق .

وقد أعلن مسئولون إسرائيليون أواخر تموز / يوليو الماضي استعداد إسرائيل للسماح لعدد محدود من الفلسطينيين الهاربين من الجحيم العراقي " للعيش" في الضفة الغربية المحتلة ، على ذمة النيويورك تايمز في الثلاثين من ذلك الشهر ، التي نقلت عن هآرتس أن المفوض السامي للاجئين التابع للأمم المتحدة كان قد قدم طلبا مماثلا لإسرائيل قبل عامين ونصف العام لكنها رفضته لأسباب سياسية وأمنية . ورحب وزير الإعلام الفلسطيني في رام الله رياض المالكي بالاستعداد الإسرائيلي الجديد قائلا إنه "إنجاز عظيم ورمزي" وأضاف: "نحن نطالب بدخول جميع الفلسطينيين من العراق" .

تناقض إيراني في إطار أميركي

وفي تناقض صارخ ما تزال طهران مطالبة بتفسيره ، يجري ميدانيا تفكيك الجالية الفلسطينية في العراق وتشتيتها وإعادة تهجيرها قسرا بأيدي مليشيات وفرق موت وقوى سياسية محسوبة في ولائها المذهبي والسياسي وفي مصادر قوتها ودعمها اللوجستي على الجار الإيراني الذي يصنفه الاحتلال الأميركي ضمن "محور الشر" لأن هذا الجار على وجه التحديد يعلن وقوفه دون قيد أو شرط إلى جانب قضية الشعب الفلسطيني العادلة وإلى جانب المقاومة الوطنية لهذا الشعب ضد الاحتلال الإسرائيلي كما إلى جانب المقاومة الوطنية السورية واللبنانية لهذا الاحتلال نفسه .

وهذا مجرد تناقض واحد من التناقضات الإيرانية التي كشفها الغزو فالاحتلال الأميركي للعراق منذ عام 2003 والتي ما تزال طهران مطالبة بتفسيرها ، ومنها على سبيل المثال التناقض بين موقفها المعلن ضد هذا الاحتلال وبين اعترافها المبكر والمستمر بشرعية النظام السياسي الذي ما يزال الاحتلال يسعى جاهدا دون نجاح حتى الآن إلى إقامته في بغداد وبشرعية كل الحكومات التي انبثقت عنه ودعمها غير المحدود لهذا النظام وحكوماته ، ومنها أيضا دعمها المعلن لكل مقاومة وطنية عربية ضد الهيمنة الأجنبية باستثناء المقاومة الأهم التي ستقرر مصير هذه الهيمنة إقليميا وهي المقاومة العراقية ، إلخ .

وقد كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في "يوم القدس العالمي" الجمعة الماضي وتعهد فيه بمواصلة الكفاح "حتى تحرير كامل فلسطين" أحدث مناسبة تسلط الضوء على التناقض الظاهر في الموقف الإيراني الذي ما زال مطالبا بتفسير كيف يمكن أن يكون تفكيك الجالية الفلسطينية في العراق ، وتدمير العمود الفقري العراقي للجبهة العربية الشرقية ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي ، ودعم قوى سياسية توقظ الفتنة المذهبية وتطلق القوى الطائفية ضد الوحدة الوطنية للمقاومة العراقية للاحتلال الأميركي للجار العراقي المسلم ، ... كيف يمكن أن يكون كل ذلك وغيره دعما ل"الصمود" الفلسطيني والعربي والإسلامي الذي تحدث نجاد عنه في خطابه ؟

إن عملية التهجير القسري الجديدة التي يتعرض اللاجئون الفلسطينيون في العراق لها منذ سقوط بغداد في أيدي قوات الغزو الأميركي كانت نتيجتها حتى الآن تفكيك جاليتهم وتشتيتها في مناف جديدة تتوزع على الجهات الأربع للكرة الأرضية دون أن يجمع بين أوصالهم وأرحامهم المتقطعة أي قاسم مشترك سوى أن هجرتهم الجديدة دفعت بشتاتهم المتجدد مسافات أبعد عن الوطن ، بأيد محسوبة على إيران بينما الاحتلال الأميركي "يتفرج" .

ويلفت النظر هنا أن الاحتلال الأميركي الذي تستقبل بلاده عشرات الآلاف من المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين سنويا والمسئول الأول والرئيسي عن عملية التهجير لم يحرك ساكنا حتى لعرض مساهمة رمزية في تخفيف معاناة المهجرين مجددا ، بينما الجار الإيراني الأقرب للعراق والأعلى صوتا والأكثر "تطرفا" – حسب المصطلحات الأميركية والإسرائيلية -- في الدفاع عن الفلسطينيين لم يجد سببا كافيا بدوره للمساهمة في تخفيف النتائج المأساوية لعملية التهجير التي تنفذها امتداداته الأمنية والسياسية في العراق ، خصوصا وأن الجيران المباشرين الآخرين لديهم حججهم للاستنكاف عن أي مساهمة كهذه ، فالكويت التي وفرت لها حرب الخليج الثانية عام 1990-1991 مسوغات تفكيك جاليتها الفلسطينية التي انضم الجزء "الغزاوي" منها آنذاك إلى الجالية "الشقيقة" للاجئين في العراق لا يتوقع منها أن تعيد تجميع هذه الجالية ، بينما سوريا والأردن المتخمتان باستضافة اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين تحتجان ببلوغ قدرتهما على الاستيعاب حدها الأقصى .

لقد كانت مخيمات الشتات الفلسطيني في المنافي خارج الوطن هي الرحم التي نمت فيها الثورة على الشتات والمنفى والاحتلال معا ، الثورة التي انبثقت عنها منظمة التحرير نفسها ، وكانت مخيمات الشتات الفلسطيني داخل ذلك الجزء الذي احتله العدو ذاته عام 1967 هي الرحم التي ولدت فيها الانتفاضة الأولى في ثمانينات القرن العشرين الماضي ثم الانتفاضة الثانية أوائل القرن الحادي والعشرين الحالي ، بينما ما يزال الشتات الفلسطيني داخل دولة الاحتلال نفسها يقض مضاجع هذه الدولة في نضاله المستمر منذ ستين عاما ضد التمييز العنصري ومن أجل الحرية والمساواة .

لذلك كان الشتات الفلسطيني داخل الوطن وخارجه مستهدفا دائما للتفكيك والمزيد من التشتيت بهدف تذويبه فدولة الاحتلال -- حتى قبل أن تنجح الثورة الفلسطينية المعاصرة في تحويل اللاجئين إلى مقاومين من أجل الحرية والعودة وفي تحويل مجمعات شتاتهم من مخيمات لاجئين إلى معسكرات مقاومين – سعت دائما إلى تصفية القضية الوطنية لهذا الشتات وتصفية "قضية اللاجئين" التي يمثلها لأنها تعتبر حتى استمرار اللجوء كحالة إنسانية واقتصادية وسياسية مصدر خطر يهدد أمنها ، أولا لأن هذه "الحالة" في حد ذاتها يمكن أن تتطور كلما سنحت لها الظروف إلى حالة مقاومة وطنية ، وثانيا لأنها حالة سياسية ستظل مصدرا للضغوط الخارجية عليها ، وثالثا لأنها حالة إنسانية ستظل تؤرق الضمائر الحية في العالم كافة وتشكك في الأسس الأخلاقية التي قامت عليها هذه الدولة .

وليس سرا أن دولة الاحتلال الإسرائيلي سعت في وقت مبكر عبر القوى العظمى البريطانية والفرنسية والأميركية التي أنشأتها إلى "دمج" اللاجئين الفلسطينيين في الحياة الاقتصادية والسياسية "للشرق الأوسط" في أوائل خمسينات القرن الماضي وهي ما زالت حتى الآن تسعى إلى حث وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" التابعة للأمم المتحدة على "توطين" اللاجئين من خلال "تشغيلهم" بانتظار "حلٌ" الأونروا ونقل مسؤولياتها إلى المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة .

معياران لتحديد المسئولية

إن كل مشاريع "التوطين" المتتالية التي اقترحتها دولة الاحتلال الإسرائيلي وحليفها الأميركي ، وفي مقدمتها مشروع "الوطن البديل" في الأردن وآخرها مشروع حل قضيتهم في دولة تتحول إلى مخيم كبير للاجئين تستوعبهم في الأراضي التي احتلتها عام 1967 ، إنما كانت وما تزال تسعى إلى الهدف نفسه وهو تصفية قضيتهم كأساس وشرط مسبق لأي تسوية سياسية "سلمية" للصراع العربي الإسرائيلي . (يمكن العودة إلى دراسة "مشاريع التوطين وحق العودة" للباحث زياد الشولي التي نشرها الموقع الإلكتروني ل"مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات" في 20 أيلول / سبتمبر الماضي لاستعراض سريع لهذه المشاريع)

في هذا السياق فقط يمكن فهم عملية التهجير والتفكيك والتشتيت الجارية ل"حالة اللجوء" الفلسطينية في العراق ، والتي لا تعترف بها أونروا ، وفي هذا السياق أيضا يصبح من الأسهل تحديد المسؤولية والمسئولين عن هذه العملية ، وفي هذا الإطار كذلك يصبح من الأيسر الحكم على مواقف القوى السياسية العراقية والعربية والأجنبية وأيضا الفلسطينية من قضية اللاجئين الفلسطينيين ، كما يصبح متاحا كشف أي تناقض بين النوايا المعلنة لهذه القوى وبين أفعالها بغض النظر عن صدق أو كذب هذه النوايا .

ومن هذا السياق ينبثق سؤالان تمثل الإجابة عليهما معيارا للحكم على مواقف كل الأطراف المعنية ، سلبا أو إيجابا ، من قضية اللاجئين بعامة ومن "حالتهم" الراهنة في العراق بخاصة ، أولهما: هل يقود الموقف إلى تقريب أو إلى إطالة المسافة التي تفصل بين اللاجئين وبين وطنهم ، وثانيهما هل يقود الموقف إلى تصليب وتماسك وصمود حالة اللجوء أم يقود إلى إضعافها وتفكيكها وتشتيتها ؟ إن الإجابة على هذين السؤالين تدين كل الأطراف المعنية بالمحنة الراهنة للاجئين الفلسطينيين في العراق بلا استثناء .

ولا استثناء أيضا لمنظمة التحرير وسلطة الحكم الذاتي المنبثقة عنها وكذلك لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" لأن الطرفين لم يستثمرا استثمارا جادا لا علاقات "السلام" التي تربط الطرف الأول استراتيجيا مع الأطراف الدولية والعربية المقررة في العراق ولا علاقات "الممانعة" و"المقاومة" التي تربط الطرف الثاني بدول الجوار العربية والإسلامية الفاعلة ميدانيا في القطر العربي المحتل سواء لكي تحول دون عملية التهجير أو لاحتواء المضاعفات الإنسانية لهذه العملية .

في يوم الأربعاء الماضي ، عقد عزام الأحمد مؤتمرا صحفيا في رام الله عرض خلاله الدور الذي قامت به المنظمة والسلطة في احتواء مضاعفات عملية التهجير الجديدة التي ما زال اللاجئون الفلسطينيون إلى العراق منذ عام 1948 يعيشون محنتها منذ عام 2003 ، واتسم عرضه بلهجة دفاعية عن المنظمة والسلطة ، نافيا أي تقصير عنهما ، لكنه في الوقت نفسه ترك السؤال الرئيسي عمن هو المسئول دون إجابة صريحة شافية واكتفى بالتعميم الدبلوماسي الذي يلمح دون أن يصرح بأسماء المسئولين عن تفكيك الجالية الفلسطينية في العراق وتشتيتها .

نقل عزام الأحمد عن القيادات العراقية التي التقاها وفدان فلسطينيان ذهبا إلى العراق خلال العام الحالي ، أحدهما برئاسة عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير المسئول عن ملف اللاجئين أسعد عبد الرحمن والثاني برئاسة مستشار الرئيس عباس للأمن الوطني جبريل الرجوب ، تذرع هذه القيادات ب"العجز" حتى عن حماية مواطنيهم العراقيين ، وكان الرئيس جلال طالباني ورئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى عبد العزيز الحكيم من القيادات التي التقاها الوفدان .

ولا بد أن يعزز تذرع القيادات العراقية بالعجز تصريح انطونيو غوتيريس المفوض السامي للامم المتحدة لشؤون اللاجئين يوم الجمعة الماضي بأن اللاجئين العراقيين الفارين من الصراع والاضطهاد في بلادهم تتقطع بهم السبل بشكل متزايد ، ومنهم 2.2 مليون مهجر داخل العراق نفسه ، دون أن يتمكن العالم أو قياداتهم من مد يد العون لهم .

وقد عزز الأحمد فكرة "العجز" العام هذه بقوله في مؤتمره الصحفي إن ما تعانيه الجالية الفلسطينية هو جزء من حالة عامة ، غير أن دبلوماسيته التي استهدفت تجنب استعداء القيادات الحالية للعراق في محاولة واضحة لتفادي خلق المزيد من الأعداء لمواطنيه قد خانته عندما قال إن استهداف الفلسطينيين في العراق هو جزء من استهداف "العروبة" فيه من قبل قوى طائفية لها ارتباطات خارجية .

وإذا كانت المسؤولية الإسرائيلية "الأولى" غنية عن البيان بالنسبة لقضية اللاجئين بعامة فإن الولايات المتحدة الأميركية تتحمل المسؤولية "الأولى" في الحالة العراقية بخاصة لأنها القوة المحتلة في العراق ، فواشنطن التي كانت دائما تتطابق وتتساوق في "رؤاها" لحل قضية اللاجئين مع الموقف الإسرائيلي وجدت في احتلالها للعراق فرصة عملية سانحة لتوفير الشروط الموضوعية لوضع هذه الرؤى موضع التطبيق . قال عزام الأحمد ، على سبيل المثال ، إن الاعتداءات على حي البلديات الفلسطيني في بغداد كانت وما زالت تجري تحت سمع وبصر قاعدة عسكرية أميركية تبعد عن أقرب بيت فيه خمسين مترا !

وتتحمل إيران مسؤولية "ثانية" ، أولا لأنها القوة النافذة الثانية في العراق بعد الأميركان ، وثانيا لأن القوى السياسية المحسوبة عليها ومليشياتها كانت هي الأداة المباشرة المسئولة عن المحنة ، وثالثا لأن الحكومة العراقية التي نشأت في ظل الاحتلال هي حكومة "صديقة" لها كانت طهران من أوائل الدول "غير المحتلة" التي تعترف بشرعيتها وتدعمها ، وهذه الحكومة والقوى السياسية المؤتلفة فيها والمليشيات التي تستظل بها هي المسئولة "الثالثة" .

وتتحمل دول الجوار العربي ، أيا كان اصطفافها في الصراع الإقليمي الدائر ، الترتيب "الرابع" في المسؤولية بعد أن عجزت دون أسباب مقنعة عن استيعاب بضع مئات من اللاجئين لن يقدموا أو يؤخروا في مئات الآلاف الذين تستضيفهم هذه الدول من لاجئي فلسطين ، أو من العمالة الأجنبية "الوافدة" ، لكي "تبادر" -- كما قال الأحمد – دول مثل البرازيل وتشيلي وكندا واليمن والسودان إلى استضافتهم "مشتتين" على مسافات أبعد عن وطنهم !

وتتسارع حاليا التحضيرات لعقد مؤتمر الخريف الدولي الذي قال الرئيس الأميركي جورج بوش إنه يستهدف التوصل إلى "سلام شامل" في الصراع العربي الإسرائيلي والذي تقول إدارته إنها ستدعو إليه اللجنة الرباعية الدولية ، التي تضم الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي وروسيا إضافة إلى الولايات المتحدة ، والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي غير الأعضاء في "الرباعية" و12 دولة عربية أعضاء في لجنة متابعة مبادرة السلام العربية وإسبانيا واليونان ممثلتين لدول المجموعة المتوسطية ويقول الرئيس الفلسطيني إنه يريد توجيه الدعوة لحضوره أيضا إلى الهند والبرازيل وإندونيسيا وماليزيا وتركيا لتمثيل الدول الإسلامية وحركة عدم الانحياز .

مرجعيات خطيرة على اللاجئين

وهذا المؤتمر إن انعقد سينعقد في إطار عملية للسلام انطلقت أصلا في إطار قراري مجلس الأمن الولي 242 و 338 وينص أولهما على إشارة إلى "حل عادل لمشكلة اللاجئين" بعامة ولم يكن غياب أي إشارة إلى اللاجئين الفلسطينيين تحديدا سهوا بل مقصودا لكي يشمل الحل" اللاجئين اليهود" من البلدان العربية كما تقول إسرائيل ، وبالتالي فإن من المؤكد تقريبا أن مؤتمر الخريف لن يتمخض عن أي حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين إلا إذا حدثت معجزة في زمن تصنع فيه الشعوب الأحداث لا المعجزات .

لذلك تجد قيادة الرئيس عباس نفسها أسيرة لهذه المرجعية ، مضطرة للتعامل معها ، وسط ضغوط مرجعيات أميركية – إسرائيلية معلنة أخرى لمؤتمر الخريف وضغوط رفض شعبي فلسطيني واسع لهذه المرجعيات تدفع هذه القيادة إلى الوقوف على خط فاصل غامض غير دقيق بين الاستحقاقات الدولية وبين الخطوط الحمر للثوابت الوطنية الفلسطينية .

والسلام "الشامل" الذي يسعى بوش إليه يبدأ في مؤتمر الخريف بإحياء عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية ومرجعياتها "الفلسطينية" كما أعلنها رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير صائب عريقات بعد قمة عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في القدس في الثالث من الشهر الجاري ، وهي السادسة منذ أيار / مايو الماضي ، هي: "خارطة الطريق ورؤية الرئيس الأميركي جورج بوش ومبادرة السلام العربية وقرارات الشرعية الدولية" .

فإذا كانت المرجعية ل"رؤية" بوش هي رسالة الضمانات التي بعثها الرئيس الأميركي لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون في 14 نيسان / أبريل 2004 التي وصفها الفلسطينيون ب"وعد بلفور الثاني" لأنها تستبعد حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة وكذلك انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 وتعتبر تفكيك المستعمرات الاستيطانية اليهودية الكبرى أمرا "غير واقعي" ، وإذا كانت مرجعية مبادرة السلام العربية لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين هي "حل عادل متفق عليه" وليس "تنفيذ" قرار الأمم المتحدة رقم 194 فإن المسوغات الموضوعية تكون حينئذ واضحة تماما ومفهومة للقلق والمعارضة الواسعة لمؤتمر الخريف المقبل في أوساط مجتمع الشتات الفلسطيني في المنافي الخارجية وفي مخيمات اللجوء داخل الوطن المحتل .

عندما سألت صحيفة "معاريف" الاسرائيلية ، في مقابلة نشرت في ملحق السبت 27 تموز/يوليو الماضي عما إذا كان يوافق على تفسير كثير من الإسرائيليين بأن عبارة "حل متفق عليه" يعني أنه لن يفرض على إسرائيل إدخال لاجئين دون موافقتها أجاب: "لا أحد يستطيع إجباركم على استيعاب ملايين اللاجئين ولكن من جهة أخرى لا يمكن إجبار ملايين اللاجئين على التنازل عن حقوقهم". وسُئل: إذن ما العمل؟ فرد أبو مازن: "يتعين علينا أن نجد حلا خلاقا ". وسُئل مجددا: وما هو هذا الحل ؟ فأجاب: " لا معنى الآن للحديث عن هذا ، لدي أفكار، ولكنها ستطرح في الوقت المناسب" .

إن الذهاب إلى مؤتمر الخريف على أساس هذه المرجعيات مقرونا بتصريحات نسبت إلى الرئيس الفلسطيني يؤيد فيها أن إسرائيل دولة يهودية لكل يهود العالم لا دولة لكل مواطنيها يفسر القلق المحموم الذي حرك قطاعات واسعة نخبوية وشعبية في المنافي وفي الأراضي المحتلة عام 1967 كما في أوساط مليون وربع المليون فلسطيني من الصامدين منذ عام 1948 داخل دولة الاحتلال نفسها للمعارضة والاحتجاج وتوقيع عرائض الرفض وتنظيم مؤتمرات "العودة" لتأكيد الحق الفلسطيني الوطني والفردي في العودة ، وهذا حراك لم يفت حتى وسائل الإعلام الإسرائيلية إذ سجلها ، على سبيل المثال لا الحصر ، داني روبنشتاين في مقالة نشرتها هآرتس في الأول من تشرين الأول / أكتوبر الجاري بقوله إن الفلسطينيين سيعارضون هذا التوجه ، مما يعطي حجة جديدة لأعداء السلام في مؤسسة الحكم الإسرائيلية ممن يروجون القول إن قيادة عباس أضعف من أن تستطيع الوفاء بتنفيذ أي اتفاقيات يتم توقيعها كذريعة تسوغ لهم التنصل من الدخول في أي عملية سلام جادة .

وربما يتلخص قلق الشتات الفلسطيني في الرسالة المفتوحة التي بعثها ، إلى الرئيس محمود عباس ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون ، المنسق العام ل"مؤتمر حق العودة" ورئيس لجنة متابعة هذا المؤتمر سلمان أبو ستة ، ونشرت على نطاق واسع الأسبوع الماضي ، إذ رفض فكرة الاستفتاء على أي اتفاق يتوصل إليه عباس مع الإسرائيليين بقوله "إنه لا يجوز الاستفتاء علي الحقوق غير القابلة للتصرف وثانيها أن الاستفتاء في مناطق محدودة لا تشمل كافة الشعب الفلسطيني لا عبرة به" ودعا عباس إلى إحياء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية لوضع " المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية في إطارها الصحيح ، مفاوضات مع الشعب وليس مع السلطة الوطنية فقط" كما دعاه إلى "الدعوة إلي انتخابات لمجلس وطني جديد يمثل عشرة ملايين فلسطيني" لأن "المجلس هو صاحب السيادة المطلقة في الحفاظ على الحقوق الفلسطينية ، وقبول أو عدم قبول أية صيغ للاتفاقات" . وأضاف أبو ستة أن " الذهاب الفلسطيني إلي مؤتمر الخريف لا بد أن يعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني وهذا يقتضي العمل بسرعة وجدية، من أجل حل الإشكال القائم بين رام الله وغزة ... بعيدا عن أية شروط مسبقة تغلق باب الحوار والحل" .

لكن التركيز الرئيسي للرسالة كان على "التوجه الإسرائيلي الأخير، الذي يريد إعادة صياغة شعار إنشاء دولتين ، دولة فلسطينية إلي جانب الدولة الإسرائيلية ، بالقول إن الهدف هو اعتراف متبادل جديد بدولة إسرائيل علي أساس أنها (الوطن القومي اليهودي) … إن هذه الصيغة خطيرة جدا ، ولا بد أن نرفضها فلسطينيا وعربيا، وننتظر موقفا رسميا واضحا بشأنها، بحكم أنكم تعرفون خطورتها بالتأكيد" لأن هذه الصيغة:

أولا " تتضمن إقرارا فلسطينيا وعربيا بإسقاط الحق العربي في فلسطين والاعتراف بما يزعمون أنه حق يهود العالم التاريخي أو التوراتي بأرض فلسطين حسب الرواية الصهيونية المختلقة للتاريخ" ،

ثانيا لأن "هذه الصيغة تنقض نضال الفلسطينيين داخل إسرائيل، الذين يسعون إلي الحفاظ علي كيانهم، ونيل حقوقهم الطبيعية كمواطنين فوق أرضهم، وتبرر تطبيق خطط الترحيل (الترانسفير) التي ينادي بها كثيرون في إسرائيل" ،

ثالثا لأن "هذه الصيغة تلغي طوعاً حق العودة للاجئين الفلسطينيين على مستويين: مستوي الاعتراف بالحق، ومستوي تنفيذ الحق. وهذا عبء تاريخي لا يمكن لأي مسؤول فلسطيني أن يتحمل تبعاته أمام الشعب وأمام التاريخ" ،

رابعا لأن "قرار التقسيم رقم 181 ، الذي أعلنت بموجبه دولة إسرائيل ، لا يقر بذلك، لأنه لا يقر إنشاء دولة علي أساس ديني أو عرقي . ولذلك فإن الفصل الثاني والثالث من قرار التقسيم يحتوي علي بنود واضحة تكفل الحقوق السياسية والدينية والثقافية للأقلية في دولة الأكثرية . وعلي هذا الأساس كان قبول إسرائيل عضوا في الأمم المتحدة مشروطا بتطبيق قرار 181 بالإضافة إلى قرار 194 ، أي عودة اللاجئين إلى ديارهم التي طردوا منها خلافا لنصوص قرار 181 في حماية الأقلية".

ومما يعطي بعدا استراتيجيا نوعيا في سياق حركة الرفض الفلسطينية الواسعة لفكرة "الاتفاق" مع إسرائيل على حق العودة "مؤتمر العودة والبديل الديموقراطي" الذي اقترحته "حركة أبناء البلد" الفلسطينية داخل إسرائيل نفسها على أساس (1) أن حق العودة حق مقدس لا يسقط بالتقادم (2) اعتبار فلسطين التاريخية وحدة جغرافية واحدة غير قابلة للتجزئة (3) اعتبار أرض فلسطين جزءًا من الجغرافية العربية (4) إقامة النظام الديموقراطي على أرض فلسطين .

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: