الأحد، أغسطس 26، 2007

السلام.. المعجزة المنشودة



رشا أرنست

كاتبة من مصر
إذا سألنا أي إنسان عن رغبته الأولى في حياته ستكون الإجابة هي السعادة. والسعادة تكون نتيجة تعود إلى أمور كثيرة منها رضا الله، حب الناس، النجاح، الشهرة، السلام.....الخ.
وكل إنسان يرغب في أعماق قلبه إلى السلام La Paix، سلام مع إلهه، سلام مع ذاته، سلام مع الآخرين. هذا ما يرجوه أي إنسان عاقل ، ناضج، عرف الفرق بين الخير والشرّ. ولكنه أحياناً يجهل كيف يصل إلى هذا السلام المرجو. غالباً ما يجهل كيف يصوب فكره وأعماله وإرادته نحو الخير الذي بداخله ليصل إلى هذا السلام. وللأسف ليست دائماً الطرق التي نسلكها للوصول إلى السلام تكون طرق الله، لكن أحياناً كثيرة تكون طرق ذاتية مبنية على الأنانية والتعصب أو الحقد الغير مبرر. وللأسف أيضاً هذا ما انتشر في الآونة الأخيرة، وليس له مكان محدد، بل انتشر في كل بقعة من بقاع الأرض. انتشرت أصوات كثيرة اغلبها عالية تـُنادي بالسلام، ولكنه سلام مزيف. سلام ينبع عن أنانية مُفرطة وجنون ليس له حدّ والمُبرر أننا نسعى للسلام. نحارب والسبب أننا نريد السلام. نقتل الأبرياء ونفجرهم والسبب أننا نبغي السلام. نشاهد بعيوننا ما اقترفت أيدينا حب وجنوناً في الظهور من دماء وأشلاء وموت هنا وهناك ونَدعي أننا نريد السلام.

معاني كثيرة تفرعت من معنى السلام، وكثرت الادعاءات. ولنُعرف معاً معنى السلام الحقيقي كما هو دون مغالاة أو تزييف. يُعرف السلام في معناه اليومي المتداول بين الناس انه الهدوء والطمأنينة، وفي اللغة الدارجة "نحن في سلام أي ليس عندنا حرب" كما نستعمل لفظ "السلام" في لغتنا العربية يومياً في إلقاء التحية"السلام عليكم" ويكون ردها واجب على الطرف الآخر بـ"وعليكم السلام". وفي لغة صناع القرار"اقصد هنا الرؤساء" يأتي تعريف السلام بأنه حالة يخلو فيها العالمُ من الحروب والنزاعات، أو بأنه حالة من الأمن والاستقرار تسود المنطقة وتتيح التطور والازدهار للجميع.
ذكر السلام في الكتب السماوية كثيراً وأوُصي به، فهو من القيم السامية التي تدعو إليها كلمة الله بالكتاب المقدس في المسيحية والتي لا تزال قائمة في التعبير عن السلام حتى في مفهومه الروحي العميق، فنجدها في الكتاب المقدس بجملته. فقد ذكر لفظ السلام أو الدلالة عليه"سلاماً، سلامي..." أكثر من مائتي مرة تقريباً ونذكر على سبيل المثال ما جاء في سفر المزامير احد أسفار العهد القديم الفصل 85"إِنِّي أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اللهُ الرَّبُّ، لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ"، كما ذكر على لسان السيد المسيح بسفر القديس يوحنا 14 :27"سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ". ففي اللغة العبرية إحدى اللغات التي كتب بها الكتاب المقدس مع الآرامية واليونانية نجد لفظ "شالوم" وهو يشتق من مصدر يدل، تبعاً لمواطن استعماله، على وجود الشيء في وضعه السليم، أو يشير إلى الفعل الذي به تـُعاد الأشياء إلى وضعها القديم السليم. لذلك فليس السلام في الكتاب المقدس هو مجرّد "الميثاق" الذي يتيح حياة هادئة ولا زمن الصلح مقابل زمن الحرب، وإنما السلام يدل على هناء وهدوء الحياة اليومية ووضع الإنسان الذي يعيش في وئام مع الله، نفسه، الآخرين ومع الطبيعة أيضاً.
أما في الإسلام فقد أعطى الإسلام حق الأمن والسلام الاجتماعي والإنساني، فذكر في القرآن الكريم: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}. من هذه الآية تتأكد حرمة سفك الدماء والفساد في الأرض.

الأديان السماوية جميعها تُنادي بالسلام، ولكن كأنها تكلم اناس غير الذين يعيشون على هذا الكوكب. كل منطقة في قبضة يد رؤسائها، فأن أرادوا السلام تحقق، وان لم يدركوه جاءت الحرب بعينها دون أدنى شك. وما يحدث في عالمنا اليوم أسوأ بكثير من هذا، فاليوم يجلس مَن لا يقوى على مواجهة حقيقة داخله المدعو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، على كرسيه الذي فقد معناه بجلوسه عليه ليُدير كفتي السلام والحرب من داخل البيت الأبيض الذي اتشح بسواد الأمهات اللواتي فقدن أبنائهن في هذه الحروب والمنازعات المزعومة من اجل السلام. أمهات من كل بقعة، بداية بمن يعيشون بجواره في أمريكا، وقد أرسل أبنائهن للحرب في العراق، إلى أمهات العراق اللواتي لا يستطعن عمل شيء سوى انتظار العدل من ملك العدل. إلى أمهات لبنان، وفلسطين الحاملات العذاب والذل ونكبات الحرب من عشرات السنيين. كل هذا وأكثر والاسم تحت عملية السلام.
عملية السلام التي أصبحت لعبة الألفاظ المحكومة من زعماء لا يعرفون ما هو السلام، السلام الذي يخرج مع نسمات روح كل طفل يموت في فلسطين. السلام الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة مع أسلحة الإرهاب بداية من بوش ومروراً ببن لادن الهارب الذي يتخفى في عباءة الدين البريء منه، إلى كل منحرف يُمسك بسلاح دمار ليقتل بريء باسم الله. السلام الذي يُعدم مع إعدام العشرات كل يوم على الطرق المتفرقة في بلاد العراق، السلام الذي استسلم على حدود لبنان يُنادي ارفعوا أيديكم عني.
كل هؤلاء الذين يتحكمون في مصير البشر مُعلنون أنهم أنصار السلام، ما هم إلا أشباح أنانيون لا يعرفون إلا النظر في المرآة لرؤية آثار الحرب والضعف والهزيمة التي يرونها على إنها أوسمة نجاح. ولكن حقيقتها امامنا أوسمة عار أيها المنادون بالسلام والدفاع عن الدين أو حقوق الإنسان.

لست بصدد الحكم على هذا أو ذاك، وإنما كلماتي هذه بصدد البحث في أعماقنا الإنسانية الباقية للبحث عن معنى السلام الحقيقي. فالسلام غايتنا الملحة في هذه الأيام تمثل حلم كأحلام المراهقين البعيدة. فكأنها تحولت من رغبة وعمل إلى حلم ثم إلى معجزة. فهل نحن فعلاً بصدد البحث عن معجزة السلام؟ ومن سيصنع هذه المعجزة؟
تُولد الرغبة في السلام مع لحظة الميلاد. يولد السلام الآتي من الآمان والاطمئنان. السلام الذي يجده الطفل في حضن أمه من اللحظة الأولى لميلاده. هذا السلام الذي نتوقُ له اليوم، وندعو من اجله. ولكن أين هو؟ علينا أن نسأل أنفسنا، علينا أن نعي مدى احتياجنا لهذا السلام. آن الأوان لأن نفيق من هذه الغيبوبة، غيبوبة أنا ومن بعدي الطوفان. غيبوبة الأنا التي سيطرت على صناع القرار. إذا لم يفيقوا بإرادتهم فليفيقوا بأصوات الشرفاء هنا وفي كل العالم. آن الأوان ليسكت الظلم وترفع أعلام الحقيقة والإنسانية من جديد. أن يُنادي كل إنسان يمتلك ضمير لا للحرب ونعم للسلام، لا للظلم ونعم للحق، لا للتكفير ونعم لرأيك أيها الآخر الذي يعيش معي وبجواري. نسير معاً أو لا نسير. ندافع معاً ونموت معاً.

لتسكت كل الأصوات المزيفة التي تنادي بالسلام المزيف وليعلى صوت الشرفاء المؤيدون لنشر ثقافة السلام الحقيقية. ثقافة السلام التي أساسها أن يتغير الإنسان أولاً من داخله. حتى يستطيع أن يُغير واقعه الخارجي. لا يستطيع احد أن يقول شيء وهو لا يؤمن به. أن آمن به يؤمن الآخرون الذين حوله. الإيمان بالشيء أساسه، وأساس ثقافة السلام هو الإيمان بالبقاء، السلام ينشد البقاء، والاستمرار. يسعى دائماً للتحول إلى الأفضل بطرق سلمية آمنة.
هناك العديد من المؤسسات الآن تُنادي بثقافة السلام. ثقافة السلام تبدأ من أطفالنا، إذا عرفوا قيمة السلام وآمنوا به سيكون أساساً لنهج حياتهم في المستقبل. ولكي يبقى الأطفال ويكبروا يلزمنا أن نؤمن حياتهم، أن نحملهم في سلام، أن نعيش لنربيهم ونراهم كما ينبغي أن يكونوا. لكي يكونوا غداً موجودين لابد أن نؤمن لهم اليوم. واليوم يفتقد للسلام. دعونا نُؤمن لهم السلام المفقود اليوم لكي يعيشوا غداً في سلام. دعونا نذهب بعيوننا وقلوبنا إلى الله القادر أن يزرع السلام بداخلنا ليخلقنا من جديد نحب السلام. فلنعطي كلمته فرصة تعمل بداخلنا، لنصنع جسور جديدة من الحب والسلام لنبني معاً من جديد ما هدمته الحرب والكراهية، لنبني حياة جديدة قائمة على العدل مليئة بالخير والنعمة والسلام للجميع.

ليست هناك تعليقات: