الأحد، أغسطس 26، 2007

انتفاضة غزة

محمد داود
لقد ابتدع الفلسطينيون زماناً فلسطينيًّا للمكان الفلسطيني، وابتدعوا أيضاً ثقافة لن تنتهي ما دام هناك قهر وظلم واقع على الشعب الفلسطيني، هي تلك الأيام التي أشبه بالهبة الجماهيرية التي صرخت بدون قرار أو إشارة قيادية، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي، عندما انتفضت جماهير الأرض المحتلة في العام 1987م من كل حدب وصوب، لاسترجاع الحق المسلوب والدفاع عن ماضٍ وتراث هو أساس هويّة الحاضر واستشراق المستقبل، لتسجل أطول حركة عصيان مدني نشط في التاريخ ، حيث انتفض الشعب الفلسطيني الثائر بعد جملة عوامل وإرهاصات تحريضية تعبوية واستعداديه، معلناً حالة الصفر، رافضاُ بذلك الوجود الصهيوني على أرضه، محطماً كل الحواجز والسواتر والمواقع، ومحطماً أيضاً حالة السكون والصمت القاتل الذي أصاب القضية والوطن وللكينونة الفلسطينية وكرامة الإنسان العربي والفلسطيني وعرضه ومقدساته على وجه الخصوص.
كانت الانتفاضة شعبية بدأت سلمية عندما جابه الأطفال والنساء والشيوخ وكل مؤسسات المجتمع الواحد دون استثناء، مستذكرين ثورات العالم الحر نحو نيل الاستقلال، حيث جعلت التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي يتوصّل إلى اقتناع لا يختلف عليه اثنان، مفاده أنه لن يمكن القضاء على انتفاضة الشعب إلا عن طريق الالتفاف عليها ومن هنا كان الخيار السياسي "مدريد ثم أوسلو"، فقد استمرت الانتفاضة ثلاث عشرة سنة وكبدت الاحتلال خسائر وأضرت بمصالحه، ويمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لأنها في تلك الفترة شيّدت كل المؤسسات البديلة لإدارة المجتمع.
هذا الأسلوب الرائع في التعبير أخذ مرتبة متطورة في أذهاننا وثقافتنا، حيث أصبح اللغة السائدة في حالة افتقارنا لكل الإمكانيات لمجابهة أي نوع من القهر أو الظلم، وهو ألأمر ذاته حيث لجأنا لهذا الأسلوب "الانتفاضة" مرتين بعد انتفاضة عام 1987م لأنها كانت انتصاراً لفكرة المجتمع الأهلي مقابل الدولة المركزية، واندلاع انتفاضة ثانية دليل آخر على مقدرة النموذج الانتفاضي على الاستمرار بعد التوقف وعلى التأجج بعد الراحة.
وهذا النموذج ليس غريباً أن يمارس ضد من كان بالأمس شريكاً سياسياً ورمزً من رموز النضال الفلسطيني، ونحن نقصد حركة حماس وقوتها التنفيذية، مع الفارق الكبير بين احتلال بغيض يمارس شتى أنواع الجرائم بحق الكينونة الفلسطينية، إلا أننا نحن هنا ليس في محل توصيف أو ربط للوقائع، لكن الأزمة باتت جلية بعد أن وصلت إلى تدهور كبيراً على المستوى السياسي والأمني و المجتمعي والديمغرافي، ويهدد نسيجنا الأسري ووجودنا بشكل عام.
لا أريد المبالغة في وصفي بأن ما حدث بالأمس هو الطريق نحو انتفاضة شعبية، ولكن ما أريد أن أقوله أنها كانت بطراز قديم وبحلة جديدة، نسترجعها أيضاً في فترة انتفاضة عام 87م عندما كانت الجماهير الفلسطينية تعبر عن غضبها ورفضها لممارسات الاحتلال خاصة عقب صلاة الجمعة، وبكل فئات وشرائح المصلين دون تحزب رافعين العلم الفلسطيني مرددين شعارات لا لاحتلال نعم للمقاومة نعم للحرية والاستقلال، هذا الأسلوب الجديد القديم لم يكن غريباً على مسيرة يوم أمس بعد أن كسروا حاجز خوفهم دفعة واحدة وهتفوا شعارات تؤكد على بقاء حركة فتح بصورتها التاريخية والمشرفة كصاحبة النضال الفلسطيني الباقي والمستمر، ومنددة أيضاً بممارسات حركة حماس وقواتها التنفيذية، حيث حضرت جماهير غفيرة يوم أمس الجمعة بعد صلاة الجمعة على أرض النصب التذكاري الجندي المجهول.
يذكر أنه تم تحطيم النصب التذكاري "الجندي المجهول" عندما أقدمت سيارة مجهولة بعد عملية الحسم الذي نفذته حركة حماس على شريكها السياسي "حركة فتح والسلطة الفلسطينية" في الرابع عشر والخامس عشر من يوليو في هذا العام, وقامت بجره في شوارع غزة ومن ثم حرقه. ...
وهذا النصب المذكور يقع وسط ساحة خضراء مكسوة بالعشب و الأشجار الجميلة , وبها ميدان الجندي المجهول حيث كان يتوسطه النصب التذكاري المخلوع "لجندي المجهول" المنتصب القامة مصوبا عيناه وسلاحه باتجاه القدس وحاميا ظهر صورة الشهيد " أبو عمار" التي خلفه والمكتوب عليها "لن يكتمل حلمي إلا بك يا قدس".
لقد اهتم المنتفضون، انطلاقاً من نزعتهم التراثية بأن يعبروا عن رفضهم لإجراءات الحسم والسيطرة على المقار الأمنية وما أفرزه الحسم من معاناة ومأساة للوطن وللمواطن وللقضية برمتها ........
و احتجاجا على ممارسات حماس وتحريضها على فتح في مساجد قطاع غزة حيث قام عدد من الأطفال برشق مجمع السرايا والتي تسيطر عليه حركة حماس بالحجارة فيما أطلق قائدو السيارات الأبواق كما شوهد محتجون يركبون على مقدمة السيارات، مرددين بصوت عالي بينما كانوا يسيرون في الشوارع قائلين "الجهاد .. الجهاد" وبالروح بالدم نفديك يا سميح، رافعين الأعلام الفلسطينية والفتحاوية، معلنين في نفس الوقت أن يوم الرابع عشر من كل شهر هو يوم إضراب شامل، يعلن فيه الحداد وحالة النفير العام، وأن يخصص هذا اليوم لزيارة اسر الشهداء والجرحى وضحايا الانقلاب .
لقد أخذت أشكال التعبير والعصيان التي تنظمها مؤسسات الدولة مناحي أخرى منها التوقف عن العمل في المصالح البلدية والنظافة و شلل عمل مؤسسات الصحة وتغيب الأطباء، وباقي مؤسسات المجتمع الخدماتية، وعلى رأسها القضاء والشرطة والأشغال الحيوية الأخرى ولربما يصل إلى التهديد إلى التعليم ما لم يتم تحييده، ومؤسسات أخرى وظيفتها إسعاف المواطنين، حيث وصل المجتمع إلى حالة من الانهيار التام يعتمد فيها على أدنى المساعدات الخارجية والمنح وغير ذلك، بالتالي أزداد العبء وأخذ أطيافاً لا يقبل الاحتمال أو التهاون معه، كما وتضاعفت معاناة المواطنين الذين لا يعنيهم من يتولى سدة الحكم.، وبأي شكل كان، إنما أن جل همهم هو تسير أحوالهم الحياتية كما يرام.
طافت المسيرة الحاشدة والمنتفضة عدة أمتار من النصب الجندي المجهول وصولاً إلى مجمع السرايا، كان هدفها إيصال رسالة للقيادة السياسية، كتعبير سلمي، ووفقاً للمصادر الصحفية التي أكدتها وسائل الإعلام المختلفة وشهود عيان أن مسلحين من حماس أطلقوا النار باتجاه المحتجين والصحفيين غير أنه لم ترد أنباء عن وقوع إصابات.
وأفادت أنه تم الاعتداء بالضرب على عدد من الزملاء الصحفيين الذين جاءوا لتغطية الحدث وكان منهم " كل من عادل الزعنون مراسل تلفزيون فلسطين ، وائل الدحدوح مراسل قناة الجزيرة الفضائية، بالإضافة واعتقال كل من الصحفي محمد البابا ، ومصطفي البايض من وكالة رامتان وخالد بلبل مصور تلفزيون فلسطين" ومصور وكالة رويترز ومحاولة اختطافه قبل أن يحرره المشاركون في المسيرة كما تم تحطيم آلة تصوير تلفزيوني خاصة بصحفي آخر.
كما ذكرت المصادر أن القوة التنفيذية حاولت أجبار الصحفيين المعتقلين قبل الإفراج عنهم بأن يقوموا بالتصريح لفضائية الأقصى الحمساوية بأنهم لم يتعرضوا للضرب والاعتداء عليهم والاختطاف لكنهم رفضوا هذه الأساليب الغير حضارية والأخلاقية بحق الصحفيين لتكتيم الأفواه ، كما قال مسؤولون من فتح "إن حماس اختطفت المئات من رجالها منذ أن سيطرت حركة حماس على قطاع غزة.
وأضافوا أن أكثر من 100 لا يزالون في السجن وان كثيرين تعرضوا للتعذيب. فهذا الحدث بكل حذافيره يعيدنا لسنوات الاحتلال الإسرائيلي وطريقة قمعة للمحتجين، فالاعتداءات المتتالية لتكميم الأفواه وعدم نقل الجرائم أينما كانت مصدرها أو طرفها، والاعتداء على الصحافيين والعاملين في المجال الإعلام، يمثل تراجعاً عن كل منجزات شعبنا الديمقراطية ويشكل مساساً بحرية الرأي والتعبير،وانتهاكا للمواثيق الدولية بالإضافة إلى أنها تسئ للنضال وللسيرة النضالية الفلسطينية، مثلما أساءت في السابق طريقة وشكل الحسم. باختصار هذه الأحداث وغيرها تبين أن الرجل الفلسطيني رقم صعب وحالة مختلفة... عصيان في زمن الانتفاضة ... أفلت من قبضة الزمن الرديء، وقد أنجز ذلك لا بتحطيم الزمان نفسه، وإنما بالعمل من خلاله وتقبّله كمعطى، وبزيادة الخبرة اليومية، من خلال التكاتف والتعاطف والتراحم.
فالشعب الفلسطيني الذي لم يرضخ يوماً لكل أشكال الطغيان لن يرضخ اليوم أمام محاولات فرض الحكم العسكري عليه، ولن يستسلم لسياسية القمع وتكميم الأفواه وحجب الحقائق مهما كلفه ذلك من ثمن، وسيختلق بدل من الطريقة ألف طريقة ما لم يسارع في وضع سقف زمني يمهد للجلوس على مائدة الوفاق الوطني ونحو المصالحة الوطنية الصادقة ... الصادقة.
والخشية تبقى رهينة الموقف من أن تعود الدوامة " ثقافة القتل المبرمج" باعتبار هذه المظاهر مرفوضة ويحق للقوة العسكرية مجابهتها وصدها وإن دعت الحاجة لاستخدام القوة، سيما بعد أن أصدرت قرارات بعدم القيام بمسيرات أو مظاهرات أو رفع الأعلام أو الصور قبل الحصول على تصاريح مسبق من وزارة الداخلية، ومع تزايد حدة الاعتقالات التي تقوم بها القوة التنفيذية في صفوف حركة فتح وإجبارهم على التوقيع على مراسيم تحد من نشاطهم بعد الاعتداء عليهم بالضرب المبرح وفق ما أعلنت عنه المصادر الإعلامية، تبقى الساحة الفلسطينية رهينة لمزيد من التصعيد في ظل غياب أي أفق أو مبادرة لرأب الصدع ونحو عقد أي مصالحة وطنية بين الأخوة المختلفين. وبين الانتفاضة الأولى عام 1987م التي اعتمدت في أسلوبها على العمل السري قد تنطلق الانتفاضة الرابعة وبنفس الأداء والشكل.
نسأل الله أن يجنب جماهير شعبنا شر الفتن ، ما ظهر منها وما خفي وأن يصون دماء أبناءه. إلى اللقاء

ليست هناك تعليقات: