الجمعة، أكتوبر 23، 2009

هكذا يتحول الانقسام الفلسطيني إلى انفصال

نقولا ناصر

تبدو الوساطة المصرية للمصالحة الفلسطينية كأنما وصلت إلى طريق مسدود، ويبدو الوسيط وكذلك الرئاسة الفلسطينية كمن فقد السيطرة على ضبط إعلامه، وإذا لم تتدارك حنكة الدبلوماسية المصرية المعروفة نفسها بسرعة لإنقاذ وساطتها، فإن الطريق المسدود الذي وصلت إليه قد تحول واقعيا إلى ضوء أخضر مصري لانفراد الرئاسة الفلسطينية بالذهاب من جانب واحد إلى انتخابات تهدد إن جرت دون وفاق وطني بتحويل الانقسام الراهن إلى انفصال طويل الأمد بين قطاع غزة وبين الضفة الفلسطينية لنهر الأردن، مما يخلق بيئة موضوعية لارتهان حل الخلاف الفلسطيني لخيار وحيد هو العنف، وهذه وصفة مثلى لتجدد التناحر الفلسطيني حد الاقتتال، وهذا بدوره يمثل الحجة المثالية لتنصل دولة الاحتلال الإسرائيلي من أي استحقاقات يطالبها المجتمع الدولي بها بذريعة عدم وجود أي "شريك فلسطيني" يتمتع بالحد الأدنى من المصداقية للتجاوب مع هذه الاستحقاقات، ناهيك عن أن فشل القاهرة في وساطتها ينذر بجعلها آخر وساطة عربية لإنهاء الانقسام الفلسطيني.

عندما ضمن الوسيط المصري وثيقته للمصالحة اقتراحا بتأجيل الانتخابات الفلسطينية ستة أشهر عن موعدها المقرر في شهر كانون الأول / يناير المقبل إلى شهر حزيران / يونيو، فإنه أظهر حرصا على إجرائها على قاعدة الوفاق والتوافق الوطني الفلسطيني، بدليل أنه لم يكتف بالتوقيع الرسمي لاتفاق المصالحة الذي كان مفترضا أن يتم بحضور شهود عرب ودوليين في السادس والعشرين من الشهر الجاري، بل أراد لهذا الاتفاق أن يأخذ مداه في التطبيق العملي طوال حوالي تسعة أشهر بعد التوقيع لإجراء الانتخابات على قاعدة توافق وطني قوية، معتبرا أن هذا التوافق هو مرجعية أقوى بكثير من المرجعيات القانونية التي اعتادت قيادة منظمة التحرير تطويعها لأغراضها السياسية حتى لم يعد لها أي هيبة قانونية لكثرة تغييرها وتعديلها خلال فترات زمنية قصيرة.

إن الإيحاء بأن مصر موافقة على ذهاب الرئاسة الفلسطينية إلى الانتخابات دون توافق وطني، وهو ما نفته حماس ولم تؤكده مصر، يتعارض مع هذا المدخل المصري الواضح إلى الانتخابات الفلسطينية. ومع ذلك فإن الرئاسة الفلسطينية في رام الله تستغل الطريق المسدود للوساطة للتهرب من الاستحقاقات السياسية لإنجاح الوساطة وتصور تلك المرجعيات اليوم وكأنها بقرة هندوسية مقدسة بحيث لا تترك مجالا للشك في أنها تستخدمها أداة سياسية لفرض شروطها على المصالحة، أو بشكل أدق شروط الاحتلال الإسرائيلي التي تبنتها الولايات المتحدة ففرضتها بدورها على اللجنة الرباعية الدولية.

ولا يوجد أي تفسير أكثر إقناعا لنفاد صبر هذه الرئاسة التي لم يعد في وسعها انتظار بضعة أيام أخرى وهي التي عطلت إنجاز المصالحة الفلسطينية وكل اتفاقياتها السابقة منذ ماطلت في تنفيذ اتفاق القاهرة عام 2005، بحيث تصر على إصدار مرسوم رئاسي قبل الخامس والعشرين من الشهر لإجراء انتخابات جديدة، كما حدث فعلا يوم الجمعة الماضي عندما قرر الرئيس محمود عباس إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني / يناير المقبل.

ولأن الرئاسة الفلسطينية تعرف قبل غيرها أن إجراءها دون توافق ومصالحة وطنية يكاد يكون مستحيلا إذا أريد لهذه الانتخابات حقا أن تكون وطنية ونزيهة وتشمل القطاع والضفة معا، فإن إصرارها لا يمكن تفسيره بدوره إلا بكونه إصرارا على تعميق الانقسام الجغرافي والسياسي الراهن، أو إصرارا على المضي في نهجها التفاوضي حتى لو كان ثمنه انقسام كهذا كما أثبتت منذ اتخذت من سلاح الحصار ذريعة للانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة.

فرئاسة عباس تعرف أيضا معرفة تامة أكثر من غيرها بأن هذا الابتزاز السياسي لحركة المقاومة الإسلامية لن يكون أكثر قسوة من الحصار المتواصل والعدوان العسكري السافر والمطاردة الأمنية المستمرة لإرغام الحركة على الرضوخ والإذعان لشروطها السياسية من أجل الذهاب إلى انتخابات جديدة لا توجد أي ضمانات بأن الرئاسة لن تكرر عدم التزامها بنتائجها كما فعلت في المرة السابقة.

وإذا ما أصرت الرئاسة على المضي من جانب واحد إلى انتخابات جزئية في الضفة الغربية فقط، فإنه لن يمضي وقت طويل قبل أن تكتشف بأن قرارها هو سلاح ذو حدين يمكن أن يرتد عليها بنتائج عكسية تزيد وضعها حرجا، بدل أن تعزز شرعيتها كما تأمل، وتزيد الوضع الوطني تدهورا، بدل أن تصلبه، لتتعزز بذلك حجة حكومة دولة الاحتلال بأنه لا يوجد لا في الوضع الفلسطيني ولا في مكانة الرئاسة الفلسطينية "شريك" يستحق أن يفرض على رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الرضوخ في الأقل للاستحقاقات الأميركية والأوروبية "للسلام"، التي تلتزم الرئاسة الفلسطينية بها بحذافيرها التزاما صارما كان ثمنه هو الانقسام الفلسطيني الراهن نفسه.

وبالكاد يستطيع الإجماع الفلسطيني على القبول بالوساطة المصرية يغطي على حقيقة أن هذه الوساطة كانت وما زالت منحازة سياسيا إلى الرئاسة الفلسطينية، لا بل إن الانحياز المصري إلى "السلام" بعامة منذ توقيع معاهدة الصلح مع دولة الاحتلال بعد اتفاقيات كامب ديفيد، والتزامات مصر طبقا لهذه المعاهدة، وانحيازها بخاصة إلى "الرؤية" الأميركية لسلام فلسطيني – إسرائيلي – وهذا انحياز لم تعد مصر تنفرد به بل يكاد يوجد شبه إجماع عربي عليه لا تشذ عنه إلا قلة معروفة من الدول العربية -- قد تحول عمليا إلى عامل ضغط على الحركة الوطنية الفلسطينية لكي تظل رهينة الخيار التفاوضي فقط، ولكي "تنبذ" أشكالا من مقاومة الاحتلال يقرها القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والشرائع السماوية والفطرة الإنسانية في الدفاع عن النفس.

وبالتالي فإنه من الصعب عدم الاستنتاج بأن الرئاسة في رام الله تستقوي بهذا الانحياز المصري لحسم صراع فلسطيني داخلي على ثوابت وطنية شوشه للأسف دخول حماس، الفصيل الأساسي للمقاومة الوطنية بعد اتفاقيات أوسلو، في العملية السياسية لهذه الاتفاقيات، بحيث بات هذا الصراع يبدو اليوم كأنه اصطراع على سلطة الحكم الذاتي في ظل الاحتلال، أو هكذا تبدو الرئاسة الفلسطينية مصرة على تصويره، من أجل تغييب الخلاف السياسي الأعمق الكامن في صلب الانقسام الفلسطيني الراهن.

وهذا الانحياز السياسي للوسيط المصري هو الذي أفرغ "اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني" المعروف باسم "الورقة المصرية" من أي مضمون وطني أو سياسي، إذ لا يمكن أبدا تفسير إغفال هذا الوسيط لهذا المضمون بالسهو أو الخطأ ، فمثل هذا التفسير البريء يتناقض تماما مع الخبرة العريقة المخضرمة للدبلوماسية المصرية.

إن إعلان الخارجية المصرية بأن وثيقة الاتفاق التي أعدتها هي للتوقيع وليست للتفاوض، وإعلانها بأن مصر "لن تنتظر إلى الأبد"، ثم التشكيك "في الإرادة السياسية" لحماس، واتهامها ب"خلق الذرائع للتسويف والتهرب" ووجود "نيات غير سليمة وتوجهات أخرى وأجندات خاصة"، إلخ، كان خروجا على دور الوسيط، وانحيازا سافرا ضد حماس، يكشف عن الانحياز السياسي الأعمق للرئاسة في رام الله، ويعتبر تشجيعا واضحا لهذه الرئاسة لكي "تهدد" بانتخابات يتضح الآن أن الهدف منها هو إرغام حماس على الرضوخ لما فشلت الوساطة المصرية في جرها إلى الرضوخ له، انتخابات ستكون نتيجتها الوحيدة، إن جرت، ليس فقط إطالة الانقسام الفلسطيني إلى أمد غير منظور وتحويل الانقسام عمليا إلى "انفصال" بحكم الأمر الواقع، بل واستبعاد أي أمل في أي وساطة أخرى بعدها، مما يخلق بيئة يتضافر فيها حصار سياسي عربي مع حصار اقتصادي غربي ومع حصار الاحتلال العسكري بحيث لا يبقى هناك سوى خيار واحد هو دفع الانقسام الفلسطيني إلى الحسم عنفا بعد أن تعذر حله وساطة، أو محاولة استئصال حماس عسكريا مرة أخرى، أو الحكم على مليون ونصف المليون عربي فلسطيني في قطاع غزة بالموت البطيء إلى أن يفرجها الله.

إن فقدان الوسيط المصري للسيطرة على إعلامه يعزز اتهامات سابقة بأن الحياد الظاهر للوساطة المصرية كان مجرد حياد تكتيكي منسق مع "شركاء عملية السلام" التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ويعطي مصداقية لمن عارض حصر الوساطة بمصر في الانقسام الفلسطيني وطالب بتعريبها كواحدة من ضمانات عدم انحيازها من جهة وتوفير ضمانة عربية أوسع للعمل بها إن نجحت من جهة أخرى.

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: