الأربعاء، أكتوبر 28، 2009

نظرة شمولية على الاقتصاد المغربي


أ. د. اميل قسطندي خوري
(مستشار اداري وخبير اقتصادي)

تعتبر المملكة المغربية من الدول الاقتصادية الناهضة emerging economies شانها شان سائر الدول الصاعدة (او الناشئة) كدول البريك BRIC (البرازيل وروسيا والهند والصين) وبعض الدول الداخلة ضمن مجموعة العشرين G 20 مثل تركيا والمكسيك وجنوب افريقيا واندونيسيا والارجنتين وكوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية. وفي سعيه المستمر لمواكبة تغيرات العصر في كافة مجالات الحياة، بدا المغرب في الثمانينات من القرن المنصرم بتوجيه سياساته الاقتصادية الوطنية المنفتحة على مختلف الاقتصاديات العالمية نحو تطبيق نظام الخصخصة (ملكية الافراد لوسائل الانتاج)privatization . ففي عام 1990 شرعت المملكة المغربية في تنفيذ برنامج التخاصية، وذلك بهدف نقل عدد كبير من المنشات العامة (المملوكة من قبل الدولة) الى حظيرة القطاع الخاص. وقد تم تفعيل هذا النظام بشكل فعلي بين عامي 1993 و 1994. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: "هل يمكننا القول ان الاقتصاد الوطني المغربي (بصورته العامة) هو اقتصاد ذو طابع خاص private-sector economy؟" على الارجح، نعم .. يمكننا اعتباره كذلك. فاذا قلنا ان حصة القطاع العام public sector من اجمالي الناتج القومي للمغرب gross national product تمثل اقل من الثلث، نجد ان حصة القطاع الخاص تصل الى اكثر من ثلثي هذا الناتج، علما بان القطاع العام يمتلك النصيب الاكبر من معظم المشروعات الكبرى للبلاد (كمشاريع الاعمار والاسكان مثلا). وعلى صعيد التجارة الحرة يرتبط المغرب بعدة اتفاقيات تجارية وعلاقات اقتصادية متينة مع العديد من الدول العربية والاجنبية نذكر منها، على سبيل المثال، اتفاقية اغادير للتجارة الحرة Aghadeer free trade agreement وذلك مع ثلاث دول عربية شقيقة: الاردن ومصر وتونس.

يتالف الاقتصاد المغربي من ثلاث قطاعات رئيسية: الزراعة والصناعة والخدمات. يشكل القطاع الزراعي ما يناهز 17% من مجمل اقتصاد المملكة. ويشمل القطاع الزراعي الصيد البحري والزراعة التصديرية والفلاحة (كتربية المواشي مثلا). ويساهم الصيد الساحلي من الثروة السمكية بنسبة تقارب 82% من الناتج المحلي الاجمالي للمملكة المغربية. ومن اهم المحاصيل الزراعية agricultural crops لاقتصاد المغرب فهي الحمضيات والفاكهة والزيتون والحبوب (كالقمح والذرة والشعير) وقصب السكر والقطاني (كالفول والجلبان والعدس والفاصوليا البيضاء). وتعتبر الزراعة مصدرا رئيسيا من مصادر الدخل الفردي per capita/personal income لعدد كبير من سكان المغرب، اذ يعتمد زهاء 40% من اجمالي عدد سكان البلاد بشكل اساسي على هذا القطاع الحيوي الهام. اما الانشطة الصناعية فهي تتوزع على عدة محاور نذكر منها الصناعة الاستخراجية extractive manufacturing التي تعنى باستخراج المعادن والمياه والطاقة (كانتاج الكهرباء وتكرير البترول واستخلاص الزيوت الصخرية والطاقة النفطية ومشتقاتها) والصناعة الاستهلاكية manufacturing consumptive (كالمنتجات الغذائية والصناعات السمكية والمشروبات والتبغ) والصناعة التحويلية transformational manufacturing (كالصناعات الكيماوية وشبه الكيماوية والبتروكيماوية والمعدنية والتعليبية وصناعة النسيج والجلود والورق والورق المقوى ومعدات النقل) والبناء construction والصادرات exports والاشغال العامة public works. يساهم قطاع الصناعة بحوالي 35% من الناتج المحلي الاجمالي للمغرب. ومن المنتظر ان يتضاعف هامش الانتاج الصناعي بحلول عام 2012 بفضل عدة عوامل ومتغيرات اقتصادية نذكر منها مثلا تهافت المستثمرين private investors على المملكة وارتفاع معدلات الطلب consumer demand على مختلف الصناعات المحلية المغربية، وذلك نظرا لجودتها العالية واسعارها التنافسية المعقولة على مستوى العالم. ومن اهم الدول الاجنبية التي تستثمر باقة كبيرة من اعمالها ومصالحها التجارية business concerns المختلفة في المملكة المغربية، نذكر، على سبيل المثال, البرتغال والمملكة المتحدة وفرنسا واسبانيا والولايات المتحدة الاميركية. اما فيما يخص قطاع الخدمات، هناك حزمة متنوعة من النشاطات الاقتصادية business cycles التي تدخل في تشكيلة هذا القطاع الهام مثل التجارة والنقل والمواصلات والادارة العامة والمؤسسات المالية والاتصالات السلكية واللاسلكية. ويشكل قطاع الخدمات ما يعادل 52% من الناتج المحلي الاجمالي للمملكة ما يجعله من اكثر وانشط القطاعات الاقتصادية من حيث معدلات الانتاجية والمردوديات الربحية على رؤوس الاموال الاستثمارية profit returns on capital investments، ناهيك عن تحقيق عوائد اضافية لخزينة الدولة من الرسوم والايرادات الضريبية. وبناء على ما سلف ذكره من معطيات اقتصادية وبيانات احصائية statistical data فانه يمكننا القول ان الاقتصاد الوطني المغربي يمكن تصنيفه في بوتقة الاقتصاد المعني بالدرجة الاولى بقطاع الخدمات service economy.

وبالاضافة الى القطاعات اللوجستية الثلاث التي تشكل بمجملها الدعائم المحورية لاقتصاد المغرب، تعتمد المملكة على مصادر اخرى لجلب سلة متنوعة من العملات الصعبة hard currencies للخزينة العامة. تشمل هذه المصادر السياحة tourismالتي تعتبر احدى القطاعات الاقتصادية الوطنية الواعدة، والاستثمارات الخارجية المباشرة direct investments foreign، وعائدات الجاليات المغربية المقيمة والعاملة في الخارج expatriates’ returns من مدخرات الافراد وتحويلاتهم النقدية من العملات الصعبة التي تساهم بدور فاعل ومؤثر في مجمل الجهود التنموية الاقتصادية والاجتماعية للمملكة (كتشغيل رؤوس الاموال واقامة مشاريع استثمارية وانتاجية مختلفة)، اضافة الى سلة متنوعة من الصادرات المحلية العالية الجودة (كالفوسفات ومشتقاته والملابس الجاهزة والاجزاء الالكترونية والجوارب والمنتجات المعدنية والزراعية والبحرية مثل الاسماك الطازجة وزيت السمك والطحالب البحرية). والجدير بالذكر ان مجمل صادرات المغرب قد سجلت معدلات مقبولة جدا في حجم النمو الاقتصادي economic growth فاقت ما نسبته 10% على مدار سبع سنوات متتالية (2000-2007). وعلى الجانب الاخر من المعادلة النسبية للتجارة الخارجية foreign trade فان المملكة المغربية تستورد المواد التجهيزية والمواد الاستهلاكية والطاقة ومشتقاتها. ومن اهم المزودين suppliers/vendors اللوجستيين لاحتياجات المغرب المختلفة نذكر مثلا روسيا وايطاليا والمملكة المتحدة والصين والمانيا واسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة الاميركية والمملكة العربية السعودية. اما الدول التي يصدر لها المغرب بالمقابل فهي تشمل ايطاليا والمانيا وهولندا وفرنسا والمملكة المتحدة واسبانيا والهند والولايات المتحدة الاميركية.

تتميز المملكة المغربية باقتصاد قوي ذي اداء رفيع يتسم بمرونة عالية وتنوع كبير ونظام مالي سليم وقطاع مصرفي متين. كما يتمتع الاقتصاد الوطني للمغرب بدرجة رفيعة المستوى من الديناميكية والاستقرار dynamism and stability. فقد تمكن المغرب من تقليص المستوى العام للاسعار general level of prices بشكل جوهري بفضل قدرته الفائقة التي اظهرها على ضبط تقلبات الاسعار prices fluctuationsمن خلال اعادتها الى معدلاتها الطبيعية regression to the mean والتحكم في معدلات متدنية من التضخم inflationوالابقاء عليها في حدود 1.8% على مدى اربعة اعوام متتالية (2000-2004). وبالرغم من ان نسبة التضخم قد ارتفعت نسبيا الى 3% في 2008 الا انها من المتوقع ان تعاود انخفاضها الى 2% خلال العام الحالي، وذلك بفضل التراجع النوعي لاسعار مستوردات المملكة الخارجية من السلع الاساسية كالنفط والحبوب والمواد الاولية. كما يتمتع المغرب بجاذبية كبيرة لمختلف الاستثمارات الاجنبية بفضل السياسات التصنيعية الارادية الحصيفة التي تنتهجها الحكومة المغربية من خلال سن التشريعات التنظيمية والقوانين المحفزة على دعم القطاعات الاقتصادية الانتاجية المادية (الصناعة والزراعة والتصدير) لوجستيا وماليا والاستغلال الامثل لرؤوس الاموال التشغيلية واقامة المشاريع الانتاجية المدرة للدخل القومي والفردي، وصولا بالمحصلة النهائية الى بناء بركة واسعة من الوظائف وفرص العمل المتنوعة التي من شانها ان تؤدي الى زيادة الدخول الاجمالية للمواطنين والتخفيف من حدة الفقر وخفض معدلات البطالة المرتفعة. ففي هذا الاطار، تمكن المغرب من تحقيق نجاح نوعي ملموس في جذب واستقطاب العديد من الاستثمارات الاجنبية التي وجدت في هذا البلد مناخا مناسبا وتربة خصبة للاستثمار على اراضيه. فقد لمسنا ترجمة حقيقية لهذه الاستثمارات في قطاعات اقتصادية متنوعة شملت صناعة الطائرات وتركيب السفن (الحربية والسلمية على حد سواء) والصناعات الغذائية والاوفشورينغ والنسيج والاتصالات. ومن العوامل اللوجستية التي ساهمت بفاعلية كبيرة في تحقيق نتائج ايجابية في هذا الاتجاه نذكر مثلا التسهيلات المرنة التي وفرتها الدولة للمستثمرين والموقع الاستراتيجي الهام للمملكة (الذي يربط بين القارة الافريقية واوروبا عن طريق مضيق جبل طارق Gibraltar) واتقان المغاربة لعدة لغات عالمية مختلفة وتوافر الايدي العاملة labor force المؤهلة والرخيصة. وللاستفادة القصوى من مجمل الفرص الاستثمارية الخارجية foreign investment opportunities التي اتاحتها الاجواء التشجيعية لهذه العوامل مجتمعة، قامت العديد من الشركات الاوروبية الكبرى بتحويل مجموعة واسعة من انشطتها الانتاجية المختلفة الى المملكة حيث تم توجيه هذه الاستثمارات النوعية واستغلالها بشكل فعال في صناعات عديدة ذات تكنولوجيا عالية state-of-the-art technology مثل السيارات والالكترونيات والصناعات الميكانيكية، على سبيل المثال لا الحصر. فالشراكة الاستراتيجية strategic alliance بين مجموعة رونو الفرنسية وشركة صوماكا المغربية لصناعة السيارات لهي خير مثال على ذلك.

كما يتمتع المغرب بقدرة عالية على امتصاص الصدمات الخارجية (كصدمات العرضsupply shocks) والتعامل معها بحصافة شديدة ما جعله قادرا على مواجهة الظروف الدولية الصعبة التي اتسمت بالارتفاع التاريخي لاسعار الغذاء والمواد الاولية الخام raw materials والسلع الاساسية الضرورية والتوامين المذهبين (الذهب الاسود والذهب الاصفر) والصمود بقوة عارمة في وجه الازمة المالية العالمية الراهنة global financial crisis التي كان لها اشد الانعكاسات السلبية على كافة الاقتصاديات الدولية وتجاوز تداعياتها المؤلمة بكل ثقة واقتدار وثبات واصرار. وان كان ثمة برهان ساطع على قدرة المغرب على الامساك بزمام الامور والتحكم الصارم في دفة التوازنات الاقتصادية الكبرى macro economics والتمكن منها والمحافظة عليها في مسارها الصحيح، فليس هناك خير دليل على ذلك من تسجيل المملكة نموا اقتصاديا باهرا بلغت نسبته 5.8% عام 2008 والذي من المتوقع له ان يتعاظم الى 6.7% خلال العام الجاري. ومن الجدير بالذكر ان الفضل الاكبر في تحقيق مثل هذا النمو كان لقطاع الزراعة.

ويعتبر المغرب من البلدان الغنية بالموارد الطبيعية المتنوعة مثل الفحم والملح والمعادن المختلفة كالحديد والباريتين والرصاص والمنغنيز والكوبالت والنحاس والزنك والفليورين والانتيموان والفضة والذهب. كما تعتبر المملكة المغربية من اغنى الدول كافة بمادة الفوسفات الحيوية، اذ يقدر مخزونها الاستراتيجي strategic reserve بما يعادل 75% من مجمل الاحتياطيات العالمية. وعلى صعيد الانتاج الاستخراجي يعتبر المغرب ثالث اكبر دولة منتجة للفوسفات على مستوى العالم واول مصدر لهذه المادة اللوجستية واول المصدرين للنسيج لدول الاتحاد الاوروبي European Union واول منتج للحامض الفوسفوري بنسبة تصل الى 46% من مجمل الانتاج العالمي الكلي world mass production. بالاضافة الى ذلك يعتبر المغرب من كبار مصدري الاسماك. ومع كل هذه الميزات والحسنات الايجابية للمغرب على صعيد الانتاج الوطني، الا ان المملكة ما زالت مقلة نوعا ما في انتاج الانتراسيت والبترول والغاز الطبيعي الذي لا يتعدى معدله 20% نظرا لمحدودية scarcity هذه المصادر من الطاقة الارضية الكامنة، الامر الذي يجعل المغرب بالكاد يغطي احتياجات السوق المحلية domestic market needsما يضطره في نهاية المطاف الى الاعتماد بشكل كبير على الطاقة المستوردة من الخارج.

وبالرغم من مجموعة العوامل القسرية التي تعيق تقدم المغرب باتجاه تحقيق النمو الاقتصادي المنشود (كالبطالة المتزايدة unemployment وتعرض قطاع الانتاج الزراعي لموجات متكررة من القحط والجفاف drought والارتفاع المضطرد للنمو السكاني population growth والاعتماد بشكل شبه كلي على تصدير سلعة استراتيجية واحدة -- الفوسفات)، الا ان المغرب ما زال ماض مضي الخيل الاصيل على طريق الاصلاح الاقتصادي economic reform والتنمية المستدامة الشاملة. فعلى سبيل المثال، تولي الحكومة المغربية اهتماما جليا بتطوير قطاعات اقتصادية اخرى (كقطاع النفايات المنزلية مثلا)، وذلك من خلال اجراء اصلاحات شاملة على مختلف الاصعدة القانونية والتنظيمية والتشريعية والمؤسسية والمالية والتقنية والبيئية والاجتماعية. كما ان الحكومة لا تدخر جهدا في تحقيق الانجازات تلو الانجازات على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وذلك من خلال سعيها المتواصل وعملها الدؤوب الجاد لاطلاق برامج اقتصادية متنوعة تهدف الى تطوير العديد من القطاعات الاقتصادية المحورية المختلفة (مثل الاتصالات والتجهيزات الصناعية والزراعية والبنى التحتية) وتحسين مستوى خدمات وسائل ومرافق النقل من جسور وشبكات طرق برية وسكك حديدية وموانيء (كميناء المحمدية وطنجة والداخلة والناضور) ومطارات (كمطار الدار البيضاء والرباط وفاس واغادير ومراكش وطنجة والعيون). وضمن رؤيتها التطويرية الرامية الى النهوض بالاقتصاد الوطني للبلاد، فقد تبنت الحكومة المغربية سياسات اقتصادية واضحة المعالم تجلت في وضع وتنفيذ مخططات تنموية شاملة economic development plans تهدف الى العمل على رفع سوية اداء وعطاء القطاعات الرئيسية الثلاث (الصناعة والزراعة والخدمات) التي تشكل بمجملها العمود الفقري لاقتصاد الدولة. من هذه المخططات نذكر مثلا "المخطط الازرق" الذي تم وضعه خصيصا للنهوض بالسياحة و"مخطط الانبثاق" الذي يهدف الى الارتقاء النوعي بالقطاع الصناعي و"المخطط الاخضر" الذي يعنى بتطوير الزراعة وتحسين مستويات الانتاج لهذا القطاع اللوجستي الهام.

_____________________
الاستاذ الدكتور اميل قسطندي خوري
مستشار اداري وخبير اقتصادي
Email: dekh@myway.com
عمان- المملكة الاردنية الهاشمية

ليست هناك تعليقات: