الخميس، أبريل 15، 2010

سؤال كيف النهوض

صبحي غندور
مباركٌ هو كل جهد حصل ويحصل في العقود الثلاثة الماضية، على امتداد الأرض العربية وخارجها، من أجل إعادة نهضة الأمَّة العربية بعدما جرى فيها من انحدار وتراجع وكبوات على مختلف الأصعدة والمستويات.

لكن رغم كثرة الجهود التي حدثت والكتابات عن أهمية "مشروع النهضة"، فإنّ واقع الحال العربي ازداد تدهوراً ولم يخرج "المشروع النهضوي" بعدُ من حيّز التنظير إلى حال التطبيق العملي. ولعلّ السبب في ذلك لا يعود إلى كثرة التحدّيات وسوء الظروف فقط، بل إلى عدم التوافق العربي بعدُ على الأسس الفكرية لهذا المشروع النهضوي المنشود، وأيضاً، وهذا هو الأهم، إلى عدم توفّر الأطر التنظيمية السليمة لتحقيق المشروع ومتابعة تنفيذه.

وقد يكون السبب أيضاً هو في طغيان "السياسي" على "الفكري" والتنظيمي" في الجهود التي تُبذل من أجل مشروع نهضوي.

إنّ السؤال المهم الذي يتمّ تجاوزه في مسألة "المشروع النهضوي"، هو: "كيف"، بينما يحصل التركيز على أسئلة: أين؟ ماذا؟ ولماذا، وهي أسئلة تحصر المشروع في الجانب النظري ولا تُغيّر من واقع الحال العربي. وقد تجاوز "مركز دراسات الوحدة العربية"، الذي يُشرف عليه الدكتور خير الدين حسيب، هذه المعضلة مؤخّراً من خلال إصدر كتاب "المشروع النهضوي العربي" والذي تضمّن في فصله الأخير إجابة عن سؤال: "كيف" من خلال أفكار عن "آليات لتحقيق المشروع"، وهذا جهدٌ مشكورٌ طبعاً.

لكن حبّذا لو جرى الفرز أيضاً في هذا المشروع/الكتاب بين "الفكري" و"السياسي" و"التنظيمي" بحيث تكون الأولوية لبناء أرضية فكرية مشتركة ثمّ التعامل مع الجانب السياسي تبعاً لاختلاف الظروف والأمكنة.

كذلك، حبّذا لو أنّ المشروع/الكتاب قد خصّص فصلاً عن "الجيل العربي الجديد". هذا الجيل المعني أولاً وأخيراً بأيِّ "مشروع نهضوي". فهو جيل تنفيذ هذا "المشروع" وهو جيل حصاد نتائجه. فحتّى يحدث التغيير للأفضل، تكون المراهنة دائماً على الأجيال الشّابة ودورها الفاعل في صناعة المستقبل. فأيُّ جيلٍ عربي جديد هو الذّي نأمل منه إحداث التغيير؟

إنَّ " الجيل القديم" في أيّ مجتمع هو بمثابة خزّان المعرفة والخبرة الذي يستقي منه "الجيل الجديد" ما يحتاجه من فكر يؤطّر حركته ويرشد عمله. فيصبح "الجيل القديم" مسؤولاً عن صياغة "الفكر" بينما يتولّى "الجيل الجديد" صناعة "العمل والحركة" لتنفيذ الأهداف المرجوّة.

هنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والحركة في أي عمليّة تغيير، كما تتّضح أيضاً المسؤوليّة المشتركة للأجيال المختلفة. فلا "الجيل القديم" معفيّ من مسؤوليّة المستقبل ولا "الجيل الجديد" براء من مسؤوليّة الحاضر. كلاهما يتحمّلان معاً مسؤوليّة مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضّخ الصحيح والسليم للأفكار، تكون الحركة صحيحة وسليمة من قبل الجيل الجديد نحو مستقبل أفضل.

المشكلة الآن في الواقع العربي الرّاهن هي أنّ معظم "الجيل القديم" يحمل أفكاراً مليئة بالشوائب والحالات الذهنيّة المرَضيّة الموروثة الّتي كانت في السابق مسؤولة عن تدهور أوضاع المجتمعات العربيّة وتراكم التّخلّف السياسي والاجتماعي والثقافي في مؤسّساتها المختلفة.

فالمفاهيم المتداولة الآن في المجتمعات العربيّة هي التي تصنع فكر الجيل الجديد وهي التي ترشد حركته. لذلك نرى الشّباب العربي يتمزّق بين تطرّف في السّلبيّة واللامبالاة، وبين تطرّف في أطر فئويّة بأشكال طائفيّة أو مذهبيّة بعضها استباح العنف بأقصى معانيه وأشكاله.

وحينما يبحث بعض الشّباب العربي المعاصر عن أطر فاعلة للحركة، فلا يجدون أمامهم إلاّ جماعات تزيد في أفكارها وممارساتها من حال الانقسام بالمجتمع أو قد يدفع بعضها بالعناصر الشّابة إلى عنف مسلّح ضدّ "الآخر" غير المنتمي لهذه الجماعة أو طائفتها أو مذهبها!

فالمفاهيم الّتي تحرّك الجيل العربي الجديد الآن، هي مفاهيم تضع الّلوم على "الآخر" في كلّ أسباب المشاكل والسلبيّات، ولا تحمل أي "أجندة عمل" سوى مواجهة "الآخر". وهي بذلك مفاهيم تهدم ولا تبني، تفرّق ولا توحّد، وتجعل القريب غريباً والصّديق عدوّاً!.. فيصبح الهمّ الأوّل للجيل العربي الجديد هو كيفيّة التمايز عن "الآخر" لا البحث معه عن كلمة سواء.

مشكلة الشّباب العربي المعاصر أنّه لم يعش حقبات زمنيّة عاشها من سبقه من أجيال أخرى معاصرة، كانت الأمّة العربيّة فيها موحّدةً في مشاعرها وأهدافها وحركتها رغم انقسامها السياسي على مستوى الحكومات. مراحل زمنيّة كان الفرز فيها بالمجتمع يقوم على اتجاهات فكريّة وسياسيّة، لا على أسس طائفيّة أو مذهبيّة أو حتّى إقليميّة. لكن سوء الممارسات والتجارب الماضية، إضافة إلى العطب في البناء الدّاخلي والتآمر الخارجي، أدّى كلّه للإساءة إلى المفاهيم نفسها، فاُستبدل الانتماء القومي والوطني بالهويّات الطّائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة، وأضحى العرب في كل وادٍ تقسيميٍّ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون!.

فهي فرصة هامّة، بل هي مسؤوليّة واجبة حينما نتعامل مع سؤال: "كيف النهوض؟"، أن نسعى لإصلاح الجيل العربي الجديد المعاصر من أجل بناء "نهضة عربية شاملة" ومستقبل جديد أفضل له.

صحيحٌ أنّ هناك خصوصيات يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك توجد الآن حاجة ماسَّة لخطاب عربي نهضوي مشترك، كما الحاجة للخطاب الوطني التوحيدي داخل الأوطان نفسها.

إنّ الحديث عن "نهضة عربية" مطلوبة يعني القناعة بأنَّ العرب هم أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة لكنّها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً وتتكامل فيها الموارد والطاقات. والمتضرّرون من هذه "النهضة" المنشودة هم حتماً من غير العرب ممّن يعملون، في الماضي وفي الحاضر، على تجزئة الأمَّة العربية وتشجيع الانقسامات فيها حفاظاً على مصالحهم في المنطقة.

إنّ "الكلّ العربي" هو مكوَّن أصلاً من "أجزاء" مترابطة ومتكاملة. فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل.

إنّ القومية هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن "فكر قومي" مقابل "فكر ديني"، بل يمكن القول "فكر علماني" و"فكر ديني"، تماماً كالمقابلة بين "فكر محافظ" و"فكر ليبرالي"، و"فكر اشتراكي" مقابل "فكر رأسمالي".. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير "الفكر القومي" فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير "العروبة" هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتى لا تختلط مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب مع قضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوّعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب.

كذلك من المهم التمييز بين أهمّية دور الدين في المجتمع وبين عدم زجّه في مهام الدولة وسلطاتها.

إنّ السعي للنهضة يوجب أيضاً الالتزام برفض أسلوب العنف في العمل السياسي وباختيار نهج الدعوة السلميّة والوسائل الديمقراطيّة لتحقيقها.

من أجل ذلك، تتطلّب النهضة العربيّة النهوض أولاً بواقع ودور المفكّرين والمثقّفين العرب الّذين يعتقدون بالانتماء للعروبة الحضاريّة، وعندها تتكافأ صوابية الأهداف مع سلامة الأساليب ونزاهة القيادات.

ليست هناك تعليقات: