الثلاثاء، يوليو 03، 2007

لنبق الحصوة ونتصارح ...

نبيل عودة
مجتمع "المهاجرين المتفكك " في اسرائيل أكثر تماسكا وقابلية للحياة من مجتمعاتنا القبلية


بعض الأبحاث "العلمية " حول المجتمع الاسرائيلي ، تقرأ في العالم العربي ، وفي بعض أوساط المتثاقفين من عرب اسرائيل بشكل خاطئ ومثير للحيرة .
لاأحد يدعي ان المجتمع اليهودي في اسرائيل بالغ الأكتمال والتماثل .وبعض النظريات التي أغرقتنا بها الصحافة العربية والفكر العربي المتخاذل ، وبالشراكة مع " مفكرين " من عرب اسرائيل ، أمتطوا صهوة التنظير والتحليل السياسي ، بهدف اساسي لتسويق أنفسهم عربيا ، وفتح ابواب مغارة علي بابا لاشباع نزواتهم المادية والشخصانية ، قادت الى تضليل فكري وسياسي لأوساط عربية واسعة ، ورأت بعض الأنظمة العربية المتهالكة والفاسدة ، بهذه النظريات والتقييمات السياسية ،قميص عثمان لتغطية عورات أنظمتها الفاسدة وبلطجية حكامها ، وخلق أوهام ومفاهيم لا تربطها بالواقع حتى شعرة معاوية .
ان طرح نظرية قديمة – جديدة عن اسرائيل ، بصفتها مجتمع مهاجرين متفكك وغير منسجم ، والاعتماد على دراسات اكاديمية اسرائيلية ، أجريت لأهداف تتعلق في برمجيات اجتماعية ، تهدف ليس فقط فحص ما هو قائم والبكاء مثل العرب على الأطلال ، انما كيف تحول المعطيات ، المقلقة في بعض جوانبها ، الى خطط عمل اجتماعي وسياسي وتربوي ، تقود الى خلق واقع اسرائيلي يهودي أكثر تماسكا وتكاتفا . وغني عن القول ، بالنسبة لمن في رأسهم بقايا من المادة العربية الخام غير المستعملة ، بين الحكام أوالمفكرين بنوعيهما ، الهاربين الى جنة الحكام العرب او المقيمين الدائمين بين سيقان الحكام العرب ، ان يستوعبوا ، ان اسرائيل مجتمع دمقراطي ليبرالي ، لا يخفي مشاكله بالقمع والتصفيات ، انما بالمكاشفة الكاملة ، والمحاسبة بلا تردد ، والادانه لمن يسقط . لا فرق بين مواطن لا يملك غرفة يأوى اليها .. وبين المواطن الأول في الدولة .
ان نظرية تقول ان اسرائيل هي مجتمع مهاجرين متفكك ، التي ظهرت من جديد ، هي غباء فكري لا يقدر عليه غير المنظرين العرب ، الذين يفكرون بمداد الحبر .
لا اريد النقاش المباشر مع أصحاب هذه الهلوسة الفكرية ، التي تقود الى خلق أوهام سياسية بالغة الخطورة في تضليلها للمواطنين العرب ، في اسرائيل والعالم العربي على حد سواء .
صحيح ان دراسات علمية اظهرت مشاكل جدية لدى أوساط واسعة جدا من المهاجرين الجدد الى اسرائيل ، والسؤال ، متى كان الوضع مع المهاجرين القدماء يختلف ؟ الم يكن الوضع أكثر ماساويا في سنوات الخمسين والستين ، يوم جمعوا المهاجرين في معابر غير انسانية ؟
ماذا نرى اليوم ، بالنسبة للمهاجرين القدماء ؟ الم يصبحوا أصحاب البيت ، وقادة سياسيين وعسكريين ورجال أكاديميا وصناعة وزراعة وتكنلوجيات متطورة وحديثة ورؤساء دولة ووزراء وسفراء وأطباء متفوقين وخبراء في مجالات علمية وعسكرية بالغة الحساسية والأهمية.. ؟!
حقا غادر الآلاف .. الى امريكا واوروبا وغيرها .. ولكن مهما كنا أغبياء ومصابين بقصر نظر سياسي واجتماعي ، ومتمسكين بأوهامنا القومية ، وترقبنا للانهيار الاسرائيلي ، و"القائنا القبض" على ابحاث علمية تجريها مؤسسات اسرائيلية ، بهدف رسم خارطة اجتماعية متكاملة للواقع الاسرائيلي بتركيباته المختلفة : الاثني ، الطائفي والاقتصادي الاجتماعي ، ووضعها في خدمة من يحتاج هذه المعلومات ، من مؤسسات حكومية وأمنية والجيش والوكالة اليهودية والأكاديميات ومراكز الابحاث ،التي تدرس هذا الواقع وتجد له الأجوبة الملائمة . ان اعتمادنا على وهم مجتمع مهاجرين متفكك ، يجعل حالنا ببساطة أشبه بما يجري مع أبطال مسرحية صموئيل بيكيت " في انتظار جودو ". انتظار بلا نتائج.
لم أكتب بالصدفة ان المجتمع الاسرائيلي هو مجتمع دمقراطي ليبرالي ، ولم اقصد مديح اسرائيل ، انما طرح الحقيقة بكل هيبتها ومرارتها العربية ، ولفت نظر القراء العرب، في اسرائيل وفي العالم العربي ، ان لا يغرهم كلام التضليل والشعارات العنترية ، والتنظيرات عن تفكك المجتمع الاسرائيلي .. و"نصر عربي قريب باذن الله تعالى " .
نجحت اسرائيل في الستين سنة الماضية بخلق واقع اسرائيلي جديد ، يتميز اولا بوجود اقتصاد قوي ، يرتكز على تطور علمي لا يقل عن أرقى المستويات العلمية في العالم . وللمنظرين من المدرسة الماركسية ، أذكرهم فقط أن ماركس رأى بالأقتصاد عامل اساسي في نشوء القومية .وهذا بالضبط ما حدث في تطور قومية يهودية في مجتمع اعتمد على المهاجرين من أطراف متشعبة ومستويات غير متماثلة في تطورها الثقافي والحضاري ، ومن المجتمع المتفكك ، بنى مجتمع هزم كل الجيوش العر بية ، قبل قيام الدولة وبعد قيامها .
حقا لا توجد قومية يهودية عابرة للقارات .. ولكن توجد قومية يهودية متماسكة ومتراصة في اسرائيل اليوم .. ومصير المهاجرين الذين يعانون من صعوبات الاندماج ، هي قضية مؤقتة في وقت زمني محدد . ان استيعاب مليون ونصف المليون انسان جديد خلال سنوات قليلة في اسرائيل كانت مهمة تبدو مستحيلة ،وهي تشبه استيعاب دولة بحجم الولايات المتحدة لكل سكان سويسرا مثلا .. ولكنها تحققت رغم كل صعوباتها ، ولم تكن قليلة ، وهذه حقيقة راسخة في اسرائيل لا يمكن نفيها اليوم .
ان نسبة البطالة في اسرائيل اليوم لا تتجاوز ال 10 % وهذه النسبة تنخفض تدريجيا ، ويجب الانتباه ان اسرائيل تشغل بين 200 الف و300 الف عامل اجنبي ، ومعظمهم جاءوا بعد اغلاق قطاع غزة والضفة الغربية بسبب الانتفاضة . أي ان البطالة في اسرائيل هي شكلية ، بسبب عدم ملائمة الأشغال المقترحة لطالبي العمل الاسرائيليين . والاقتصاد الاسرائيلي قادر على استيعاب مليون مهاجر آخر بدون مشاكل ، وبالطبع ستنشأ مشاكل الاندماج في المجتمع الجديد ، الاندماج الاقتصادي والاندماج الثقافي والاندماج السياسي وغيره . الا يعاني المهاجرين من أوطانهم الى دول مختلفة في العالم من صعوبات التأقلم ؟ الفرق أن المهاجر الى غير اسرائيل عليه ايجاد حلول لمشاكله بنفسه ، في اسرائيل هناك مئات الهيئات والمؤسسات والوزارات التي تخطط وتنفذ ما يسهل الاندماج في سوق العمل ،وفي الحياة الاجتماعية ، وفي الحياة الثقافية العامة والخاصة ، عبر احترام التعددية الفكرية والثقافية والاثنية .. وبالطبع لا يمكن تجاهل شبكة الأمان الاجتماعي ..
توجد مشاكل ؟ لا أحد ينفيها .. وهناك رفض مثلا للأصولية اليهودية في أوساط يهودية واسعة ، لدرجة ان علمانيين أو متدينين غير اصوليين يتركون مدينة القدس وينتقلون لتل أبيب العلمانية مثلا ، او لمدن أخرى لا توجد فيها سيطرة اصولية على الحياة الاجتماعية والثقافية .
ولكن الحديث عن مجتمع مهاجرين متفكك مثير للضحك .
هل واقعنا العربي أكثر تماسكا ، في اسرائيل وفي العالم العربي ؟
الم تقض آفة الطائفية على تواصلنا وتماسكنا الاجتماعي والسياسي والثقافي ؟ الم تفسخنا العائلية البغيضة ؟ الم نتحول الى أحزاب طائفية وعائلية وشخصانية بما فيها حتى أحزابنا المسماة قومية وشيوعية ، بعد أن غابت الطليعة المتنورة ؟
لماذا يهرب المسيحيون العرب من مصر والعراق وفلسطين ولبنان وغيرها من "الدول العربية الوطنية الثورية "؟؟
ولماذا يتهم الليبراليون العرب بالكفر والزندقة والتخوين .. ولماذا يمنع التفكير الحر الدمقراطي ، وتمنع التعددية الفكرية ، ويعامل المختلف دينيا بالاستبداد والقهر؟ وتمارس أبشع أشكال الحرمان ضد الأقليات الاثنية والدينية لدرجة حرمانهم من المواطنة؟
هل هذا يعبر عن اندماج قومي وتماسك اجتماعي وتآلف فكري وشعور وطني موحد ؟
اليست أحداث غزة هي نموذج لآفة الدين السياسي .. ولوحشية ممارسات هذا الفصيل "المناضل" من أجل تحرير فلسطين من الفلسطينيين ؟
من يستفيد من شعار " فلسطين اسلامية " و " الاسلام هو الحل " ؟.. هكذا نوحد شعبنا الفلسطيني بكل طوائفه ، ونرص صفوفه الوطنية ، أم نبعثره ونحوله الى مجتمعات مغلقة بين بعضها البعض ، ولا أقصد فرض الأنعزال على المواطنين الفلسطينيين المسيحيين ، انما انعزال المتنورين المسلمين ، ويشكلون أكثرية في فلسطين على الأقل ..؟
هل قتل قادة فتح والتمثيل بجثثهم في شوارع غزة هو تماسك اجتماعي وطني والتزام بالقضية الوطنية العظمى للشعب الفلسطيني ؟
هل الأعتداء على الكنيسة والمدرسة في غزة ، هو ضمن الحلول الاسلامية لحركة حماس ومن يشبهها في فلسطين والعالم العربي ؟
لم أنس ما قامت به حماس قبل سنوات طويلة من الاعتداء المستهدف على أقارب لي ( مسيحيين ) في غزة يملكون محلات لتجارة العطور والميكياجات وقص الشعر .. رغم وجود سلطة فلسطينية بقيادة ياسر عرفات وقتها ، فأضطروا ، بألم ، لبيع ممتلكاتهم والهجرة من وطنهم حتى لا يتعرضوا لما هو أسوأ من حرق محلاتهم . هل هذا مجتمع غير متفكك ؟.. متماسك ؟ .. موحد وطنيا ؟ وكيف الحال الآن بعد اعلان " دولة حماستان " في غزة ؟؟
اذن هل نحن مجتمع قومي متماسك .. أمم أن مجتمع المهاجرين المتفكك أكثر تماسكا من كل مجتمعاتنا العربية ؟
لم أتحدث عن دور الجيش الاسرائيلي في عملية الصهر الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي ، التي يؤديها بجدارة .. كنت أتمنى أن أشهد مثلها في دولة عربية ما ، وهل سرا أن جيوش العرب تفسخها الفئوية والطائفية والعائلية ، وان التقدم في سلك القيادة لا يتعلق بالكفاءات ، بل بالارتباطات الحزبية والعائلية مع الجالسين على راس النظام ؟
هل انجزت دولة عربية واحدة ، بعض المستوى العلمي أو الاقتصادي أو الطبي أو الاجتماعي أو الثقافي الذي أنجزه مجتمع المهاجرين المتفكك ؟
لماذا الانتاج القومي السنوي الاجمالي لاسرائيل ( مجتمع المهاجرين المتفكك ) يتفوق بمرة ونصف المرة على الأقل ، على الانتاج القومي السنوي الاجمالي لكل الدول العربية المحيطة باسرائيل ( مصر وسوريا ولبنان والاردن وفلسطين ) ؟
كيف نفسر ان معهد علمي اسرائيلي واحد ، يوظف سنويا 2 مليار دولار لابحاثه العلمية ، عدا الجامعات والمعاهد المختلفة والتي تتجاوز ميزانية بعضها ال 2 مليار ، بينما كل عالمنا العربي يوظف بالكاد 800 مليون دولار للأبحاث العلمية ( رسميا على الأقل ) ؟
الا ترون النتائج على أرض الواقع ؟ اسرائيل تمتلك ، حسب مصادر دولية 200 قنبلة ذرية على الأقل ، وتمتلك أقمار تجسس في الفضاء الكوني ، وتطور اسلحتها ، وتصمم وسائل قتالية متطورة .. بينما نحن مشغولين بفتاوي رضاعة الكبير .. وغيرها من الخزعبلات .
لا يا سادتي ، انا أفضل "مجتمع مهاجرين متفكك" ، دمقراطي ليبرالي متطور علميا واقتصاديا ، ويحترم التعددية الأثنية والدينية والثقافية ، ولا يستعمل السكاكين لجز الأعناق في خلافه السياسي . ولا يخطف امرأة من بين أطفالها لأن والدها شخصية أمنية مسؤولة في السلطة الفلسطينية ، ولا يقتل بلا محاكمات ، ويمثل بجثث القتلى ببشاعة حيوانية .
مأساة غزة تجعلنا نبق الحصوة .
مرة أخرى ليس غزلا باسرائيل ، ولكن صياغة المواقف تحتاج الى استعمال المادة الخام
المعتقة ...
هذا هو مجتمع المهاجرين المتفكك ... ليتنا ننجز ما أنجزه من الوحدة والتطور والتنور !!

نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com

ليست هناك تعليقات: